on
صنم حافظ الأسد في حماة
إياد الجعفري
يداعب بعض السوريين، حنين، لزمن ما قبل الثورة عام 2011، بكل ما فيه من سلبيات وإيجابيات. فذاك كان زمناً أفضل بالنسبة للكثيرين منهم، دون شك. ويطال الندم بعض المنخرطين بالحراك الثوري، ليتحول إلى أمنية يجاهر بها البعض، برجوع الزمن إلى الوراء. ويصل الأمر بالبعض إلى التساؤل: ماذا لو انتهى الأمر لصالح استقرار حكم آل الأسد، أليس ذلك أفضل الخيارات المريرة المتاحة؟
وهنا يُطرح التساؤل الآتي: ماذا لو استقر الأمر، في نهايته، لآل الأسد، بالفعل؟.. الجواب جاء حاسماً حينما أعادت سلطات النظام نصب تمثال حافظ الأسد الضخم، في مدينة حماه، منذ أيام. ذلك الإجراء حمل دلالة صارخة، مفادها، سوريا المُرتقبة إن استقر الأمر لآل الأسد، هي ذاتها التي عرفها السوريون في الثمانينات، بعد حسم معركة نظام الأسد الأب مع الأخوان المسلمين، حينها.
قد تكون ذاكرة بعض السوريين قصيرة، وقد تكون الذكرى لدى البعض بعيدة، أو ربما لم تكن أجيال من السوريين التي تعيش اليوم، تعي تلك الأيام، أو تعيشها. لكن من يتذكر جيداً حياة السوريين بعد حسم معركة الأسد الأب مع الأخوان، وتحديداً، بعد مجزرة حماه عام 1982، يمكن أن يربط بسهولة بين إعادة نصب تمثال الأسد الأب، في ذكرى تلك المجزرة ذاتها، اليوم، وبين ذكرى تلك الأيام التي تلت المجزرة.
لحقبة الثمانينات في وعي السوريين الذين عاشوا كل تفاصيلها، أثرٌ دفينٌ في لاوعيهم. فهي التي قادت معظمهم إلى قبول حالة التدجين التي نجح النظام في تحقيقها، فجعل نظامه مستقراً لعقود، بل وقابلاً للتوريث إلى شابٍ يافعٍ لا يتمتع بالخبرة، في العام 2000.
فبعد مجزرة حماه عام 1982، ارتفعت جدران الخوف بين السوريين، وكثر المخبرون بينهم، وتفشت في أوساطهم أخلاقيات، النميمة المخابراتية، والانتهازية الأمنية، حتى باتت مقولة “للجدران آذان”، تحكم تفكيرهم، وتحجب قناعاتهم الداخلية عن الإفضاء بها للآخرين، إلا في أضيق الحدود. وكنتيجة لذلك، بات يمكن لك أن تسمع نُكتاً عن الحدود التي وصلت إليها حالة الخوف بين السوريين، من بعضهم، حتى بات يُقال أن أحدهم كتب تقريراً أمنياً بزوجته، فأُودعت المُعتقل، وآخر كتب تقريراً أمنياً بجاره، فغاب “وراء الشمس”.. إلخ
وربما لم تكن مصادفة البتة، أن تدشين حقبة خوف السوريين من بعضهم البعض، بدأت بالتزامن مع تدشين أول تمثال بالحجم الكبير لـ حافظ الأسد، في مدينة الطبقة التابعة إدارياً، للرقة، في مطلع الثمانينات. ذلك التدشين، رافقه إمعان في سياسة “تأليه الحاكم”، التي طغت على الخطاب السياسي والإعلامي والثقافي السوري، في الثمانينات. حيث أُطلقت على حافظ الأسد، ألقاب تعظيمية، لم تبدأ بـ “سيد الوطن”، ولم تنته بـ “قائد المسيرة”. لتمر بين هذه الألقاب، شعارات إذعانية فُرضت على الجمهور السوري، منذ نعومة أظافر أبنائه، في المدارس، من قبيل، “حافظ الأسد، قائدنا إلى الأبد”.
تدشين تلك الحقبة، من “تأليه الحاكم”، وفرض الإذعان له ولعائلته، “إلى الأبد”، في وعي السوريين، وعبر سياسة قمعية بوليسية مُغرقة بالرعب، بالنسبة لكثيرين من السوريين الذين عاشوا تلك الحقبة.. انطلق تدشينها، مع الملامح الأولى لحسم معركة الأسد الأب مع الأخوان المسلمين.
واليوم، يعود تمثال الأسد الأب إلى مكانه في حماه، الذي أُزيل منه بعد خمس سنوات، ليقول للسوريين جميعاً، “بدأت حقبة جديدة من الإذعان”. حقبة سيسودها، لو كُتب لحكم آل الأسد الاستقرار من جديد، “تأليه” كل رموز العائلة، وفي مقدمتهم، الأسد الأب والابن، من جديد أيضاً. والأخطر من ذلك، ستسودها، مرة جديدة، سياسة قمعية بوليسية، ستطال أضعاف المعتقلين الذين سقطوا في عهود الثورة، كما حدث بعيد مجرزة حماه، حينما كان تشويه صورة حافظ الأسد على كُتيب مدرسي، كفيلاً بإخفاء عائلة بأكملها. فجدار الخوف بين السوريين سيرتفع من جديد. لن يرتفع بين السوريين كطوائف وأعراق، بل بين السوريين كعائلات، وحتى كأفراد.
تلك الحقبة التي يعمل الأسد الابن على تدشينها من جديد، لن يغيب عنها الأمن فقط، حينما تشعر أنك بخطر دوماً إن تلفظت بأي لفظٍ يُوحي بعدم ولائك للعائلة الحاكمة. بل يتعدى الأمر ذلك، ليطال المعيشة، حيث يقف السوريون طوابير للحصول على الوقود، كما كانوا يقفون طوابير، في عقد الثمانينات، للحصول على السمنة أو على علبة مناديل.
تلك سوريا المُرتقبة، لو قِيد لحكم آل الأسد الاستقرار من جديد..
بطبيعة الحال، يعتقد أكثر المراقبين تشاؤماً، أن الزمن يستحيل أن يعود إلى الوراء، وأن حكم آل الأسد، حتى لو استمر، فإنه سيكون “مخصياً”. لكن، على الضفة الأخرى، ضفة آل الأسد وأنصارهم، وزبانيتهم، لا تبدو تلك القناعة قائمة. فهم يعتقدون أن التاريخ يكرر نفسه، بالتفاصيل نفسها، حتى تلك الدقيقة منها.
بكل الأحوال، يبدو أن نصب “صنم” حافظ الأسد في حماه، من جديد، رسالة لكل السوريين الذين يقولون، “فضوها سيرة”، ولترجع الأمور إلى نصابها.. هذا نصابها المُرتقب في ظلال “آل الأسد”.
“المدن”
المصدر