“المكتوب مبيّن من عنوانه”:هل ندمت على عنوان كتاب لك؟


يقول مثل مصري: “الكلام زي العيال، لمّا بيخرج مابيرجعش تاني”. نعم، هناك ما لا تستطيع تداركه بمجرد أن تقوله، مهما أعدت النظر، ومهما أحاطك الندم. هكذا عناوين الكتب، كبعض الكلام وأسماء المواليد. البعض، للضرورة القصوى وفي حالات قليلة، يغير اسمه في الأوراق الرسمية، بينما أغلب البشر لا يفعلون، على الرغم من أهليتهم.
العنوان، كعتبة أولى للنص، كفيل بأن يجعلك، “كقارئ”، يتجول في مكتبة من دون خطة، تمد يدك إلى كتاب على الرفّ، أو لا. أو أن يضعك كـ”كاتب” أمام تلقٍ معين لما كتبته، تلقٍ قرائيٍّ أو حتى نقدي. قليلون يرون أن الأمر لا يستحق إعطاءه أكبر من حجمه، غير أن الكثير من الكتاب يحتار، والكثير منهم، أيضًا، يندم، ولكن بعد فوات الأوان، عندما يكون العمل خرج من المطبعة بعنوان “غير مريح”.

لا توجد تجارب كثيرة معروفة، لكُتاب غيروا عناوين أعمالهم في طبعة تالية على الطبعة الأولى. أدونيس فعلها. وحالات الندم لها أكثر من سبب. بعضها جاء بعدما شعر الكاتب بأن العنوان صنّف نصّه، أو أطّره داخل منطقة غير التي أرادها. والبعض عاش فترة يُفكر في اضطراره لعنوان رأى الناشر أنه أفضل، نادمًا على عدم تمسّكه برأيه. وهناك الذي كان مقتنعًا قبل أن يبدي صديق أو ناقد ملاحظة. الأعمال الأدبية التي غيّرت العالم ليست كثيرة، لو فكّر الكُتّاب بهذه الطريقة سيصير الجميع عدميًّا، لن يكتب أحد. من هنا، ينتاب الحريصين شعور زائد بأن القارئ سيقف أمام مصطلح أو عبارة ليست على ما يرام، فما بالك بالعنوان؟

هناك سحر في بعض عناوين الأعمال الأدبية المترجمة، حيث يحتفظ العنوان بألقه أو شعريته رغم انتقاله من لُغة إلى أخرى. العنوان من صُنع الكاتب، لكن بعض العناوين كانت من التوفيق بحيث خلدت أصحابها، لدرجة أوصلت بعض الكُتّاب إلى عقدة الخوف من ألا يستطيع تجاوز عنوان “وضعه بنفسه” إلى آخر بسبب ما تحقق من نجاح لهذا العنوان. الأمر ليس تحصيلًا حاصلاً. أسماء البشر ترافقهم حتى الموت، وأسماء الكتب سترافقها إلى الأبد.

هنا شهادات لعدد من الكُتّاب العرب. حكايات شيّقة، ووجهات نظر متباينة.

سعيد الكفراوي: مدينة الموت الجميل

جمعت ما كتبته من قصص، في زمن الستينيات البهيج في كتاب، عنونته “مدينة الموت الجميل”. كانت القصص كلها تشبه فصولًا في نص روائي، وتحمل معنى عن الفقد والمصير. عند صدورها قابلها طيب الذكر الراحل الروائي والإنسان علاء الديب بحفاوة سرّت نفسي، في بابه الأشهر، “عصير الكتب”. يومها ذكر أن هذه الكتابة، عبر نصوصها، تنشغل بالحفاظ على ذاكرة يتهددها الفناء، ويشارك كاتب هذه القصص الشاعر محمد عفيفي مطر، في الانشغال بتجسيد ذلك المعنى. ثم ألقى الديب سؤاله: “هو يا عم سعيد فيه موت جميل وموت قبيح؟”. كان غير راضٍ عن العنوان.
أربكتني ملاحظة علاء، وراجعت العنوان، وأخذت أردده بيني وبين نفسي مندهشًا. كيف فات علي الأمر؟ وأخذت أراجع عناوين القصص. “قمر معلق فوق الماء”، “الجواد للصبي.. الجواد للموت”، “سنوات الفصول الأربعة”، “صندوق الدنيا”.. إلخ. ما الذي ألقى بك ناحية هذا العنوان؟
مشاعر من قلق انتابتني بسبب ملاحظة علاء الديب. استخرت الله، وعزمت على تغيير العنوان في الطبعة الثانية، إن حدث، وطبعت المجموعة طبعة ثانية، لكي أتخلص من هذا الثقل بداخلي بسبب من تلك الملاحظة.
وجاءت الطبعة الثانية، والثالثة، ثم نشرت المجموعة ضمن ست مجموعات في مجلد واحد، ولم يتغير العنوان. ظل يثير في نفسي الريبة، لكنه لا يتغير أبدًا: “مدينة الموت الجميل”. يحمل الإحساس بالزمن والرحيل، ويمثل ذلك الصوت الذي يأتي عبر الآماد البعيدة مثل نقر على طبل في فضاء ليلي.. يا للعجب!

عزت القمحاوي: أندم دون مغالاة

إجمالاً أنا قليل الندم على عنوان نشرته، لأنني لا أدخر جهدًا أو أسرق وقتًا من كتبي وعناوينها، فما يصدر أرضى عنه باعتباره أقصى ما استطعته. وعادة ما أستشير الأصدقاء قبل النشر. لكن للمصادفة البحتة فإنني غير راضٍ عن عنوان مجموعتي القصصية الأولى “حدث في بلاد التراب والطين” وأراه ثقيلاً، وينطوي على نزوع مأساوي، أو عزائي، وكذلك غير راضٍ عن عنوان روايتي الجديدة “يكفي أننا معًا” وأراه رومانسيًا أكثر مما ينبغي لنص يحمل ذات الأسئلة التي تحملها كتابتي عادة، ومنها الخوف من الفناء.

الفرق في الحالتين أنني كتبت عنوان العمل الأول بثقة، بل بتبجح، الشاب قليل الخبرة، وفي الكتاب الجديد بحيرة الكاتب الذي يزداد خوفًا من الكتابة، كلما نشر كتابًا جديدًا، وقد طلبت عون الأصدقاء فلم أظفر هذه المرة، ووضعت أمامهم نحو عشرة عناوين ولم نرض عن واحد، فتركت لدار النشر اختيار العنوان من الأسطر التي كتبتها تباعًا، مع التنويه بأن أولويات العناوين على الصفحة الأولى من المخطوطة لا تعني ترتيب تفضيلاتي الشخصية.

وعمومًا، فإن الشعور الذي يخلفه اختيار العنوان غير المناسب، ليس الندم، بل عدم الرضا فحسب، لأن المتن يطغى على العنوان بعد ذلك، وعند الإشارة إلى رواية بعد سنوات من كتابتها، فإن ما يتبادر إلى الذهن هو المحتوى لا العنوان، مثلما تتداعى إلى مخيلاتنا صورة الشخص الخسيس من خلال سلوكه حتى لو كان اسمه نبيل أو سامي، والعكس بالعكس، إذ نستدعي رقة إنسان رقيق، حتى لو حمل لقب عشماوي أو صدام.

لم يتبادر إلى ذهني مطلقًا إمكانية تغيير عنوان عمل في طبعة تالية، استنادًا إلى القناعة بأن الأسماء لا تشير إلى جوهر الأشخاص، والعناوين تتضاءل مساهمتها في الإشارة إلى المضمون بعد أن تصدر، لكنني مثلاً مع حرية الكاتب في تغيير بالمتن، على أن يشير إلى ذلك، وهو ما فعلته في الطبعة الثانية من “كتاب الأيك”، الذي أضفت إليه فصلاً مع بعض التعديلات الأسلوبية على الطبعة الأولى.

جبور الدويهي: العناوين حكايات

كأن لكل عنوان قصّة. عنوان أجده ما إن تلوح لي فكرة الكتاب، مثل “اعتدال الخريف” وقد وجدتني، وربما بسبب دهشة العنوان، أسوق فصول الرواية في دوران السنة، وربما هذا ما دفعني لأجعل منها نوعاً من المفكرة الشخصية لأختمها في هذا اليوم من شهر أيلول الذي يتعادل فيه الليل والنهار، أو روايتي المقبلة التي ما زلت في تمتماتها الأولى، “حقّ المرور”، وهذا ما يرسّخ الموضوع في إشارات العنوان. عنوان تنتهي الرواية ولا أجده فتمضي أيام في البحث عنه

أشارك فيه الأصدقاء ممن قرأوا المسوّدة حتى “يلمع” عنوان مثل “مطر حزيران” الذي اقترحه عليّ شقيقي الأكبر، وقد استوحاه من القرار الظنّي حول الحادثة التي أروي بعض فصولها. كذلك أمضيت وقتاً طويلاً قبل الوصول إلى “طُبع في بيروت” روايتي الأخيرة التي تدور أحداثها في مطبعة في العاصمة اللبنانية، وكان الخيار من وحي التعبير الشائع عن صواب أو عن خطأ: “القاهرة تكتب، بيروت تطبع، وبغداد تقرأ”. عنوان من ذكريات الطفولة عندما كنا نهزأ من شخص غريب الأطوار يعيش في جوار نهر البلدة ويلقبّونه “حنّا النهر” ساعدني على الوصول إلى تسميّة بطلة روايتي عنواناً “ريّا النهر”. أو مثل تردده والدتي عندما تقدّم لأخويّ المقيمَين في فرنسا حجة تقنعهما بالعودة إلى لبنان: “الموت بين الأهل نُعاس” فكان عنوان مجموعتي القصصية الأولى. ثم كانت عناوين سهلة تشير إلى الأمكنة التي تجري فيها الأحداث مثل بلدة “عين وردة” الجبلية أو “حيّ الأميركان” المديني. العنوان الوحيد الذي رسيت عليه خلال الكتابة كان “شريد المنازل” عندما وفّقت بخاتمة رسالة يوقع صاحبها بعبارة “شمعون رخّو، شريد الأوطان ويتيم الأصدقاء”، وكنت خلال تأليف هذه الرواية حول أحوال لبنان أفكّر بكتاب كمال الصليبي “بيت بمنازل كثيرة” فأخذت كلمة من هنا وأخرى من هناك لأصنع منهما عنواناً. وعند اختيار عنوان روايتي الأخيرة كان واضحاً عندي الميل إلى عناوين بكلمتين فقررت أن أكسر القاعدة لأضيف حرف الجرّ في “طُبع في بيروت”. ختاماً لا أشعر أني نادم على أي من عناويني ولو أن بعضها غيّرته الترجمات مثل “القديس جرجس كان ينظر إلى البعيد” في النسختين الفرنسية والإيطالية لرواية “شريد المنازل” أو “صباح الغضب” في الترجمة الألمانية لرواية “مطر حزيران” أو أيضاً “موتيل روز فاونتن” في نسخة “عين وردة” الفرنسية.

خليل النعيمي: علام نندم؟

الندم؟! كلمة كبيرة تشمل الوجود. ندَم على عنوان؟ وما هي الكتب العربية التي تستحق القراءة، حتى لا أقول الندم، وعلى رأسها كتبي؟ لا شيء. العنوان، على عكس ما تعتقد، ليس عتبة للنص، وإنما هو ابتذال للمكتوب. النص الذي يُعرف من عنوانه ليس إلا مهزلة كتابية لا جدوى منه. الكتابة أكبر من العنوان. العنوان من صنع المؤلف وليس من «صنْع النص». علام نندم إذن؟ الأجدر بنا أن نندم على نصوصنا المحرومة من العبقرية، وليس على عناوينها التافهة.

في أي عصر نعيش؟ حتى لا أقول تعيشون! أنتَ تعرف أكثر مني، ربما، أننا نعيش في عصر التفتُّت والابتذال عربياً. وأن كل ما يُنْجز، حالياً، في سياق الأدب، رواية، أو نقداً، أو شعراً، لا يستحق إلّا عنواناً واحداً، أياً كان مؤلفه: “الانهيار”! لقد دخلنا، مع “التدمير المنهجي” لبلداننا في مرحلة “الخراب المعمم”. وهو، بالتأكيد، سبب انتشار “الكتابة الواحدة” التي بشَمَتْنا، والتي لا تحتاج إلى عنوان يدلّ عليها. عن أي نَدَم يمكنني أن أتحدث؟

“العبقرية العربية” المعاصرة لم تجد طريقها، حتى الآن، إلى النور. فأي أهمية للعناوين ونصوصنا محشوَّة بالبلادة والزيف والإنشاء؟ وفي النهاية، أنا ممِّنْ يعيشون في دوّامة ذاتيّة مستمرّة من «نقْض مواقفي»، ومن «نقدها»، ووضعها موضع تساؤل. لكنني، غالباً، أستعيدها، أو أتصرّف وفقها، وكأنني نسيت ما اتخذته، قبل قليل. من قرارات. أنُسَمّي ذلك ندَماً؟

نبيل سليمان: نعم.. لي ما أندم عليه

عندما أهداني الصديق المقيم بيننا، لا الراحل، جمال الغيطاني نسخة من طبعة كلكتا من “ألف ليلة وليلة 1838-1842” كنت أحوص، بل أحبل، برواية “سمر الليالي”. وقد سباني عنوان تلك الطبعة، وهو حرفياً “ألف ليلة وليلة يدعى عموماً: أسمار الليالي للعرب مما يتضمن الفكاهة ويورث الطرب”.

هكذا أومض لي العنوان “سمار الليالي”، وبومضه أسفر بناء الرواية سَمَراً سَمَراً، حتى إذا فرغت منها، أقبلتُ على “لسان العرب” أبحث عن الأسمار، فنبق واحدها: السمر، وهو المسامرة، والحديث ليلاً، والظلمة، وظل القمر، والدهر والليل. وإبلنا تَسمُر: ترعى ليلاً، وسَمُر القومُ الخمرَ: شربوها ليلاً، والعنوان إذن هو (سمر الليالي)، وزينتْ لي الأمّارة بالسوء أن النأي بعنوان الرواية عن حرفية العنوان الأصلي لألف ليلة وليلة، أفضل.

بعد صدور الرواية بقليل سنة 2000 جرّت عليّ في 31/1/2001 اعتداء مجهولين معلومين في سياق ما عرف آنئذٍ بربيع دمشق، جزاء ما اقترفت من حكايات السجينات السياسيات الشابات السوريات، إسلاميات ويساريات. وربما كان ذلك ما أقام مسافة بيني وبين الرواية حتى صدرت طبعة منها في المغرب عام 2009. وما إن رأيت نسخة منها حتى استفاق عنوان “أسمار الليالي” وأورثني ندماً ما دمت حياً.

من قبل، وعندما كتبت رواية “جرماتي” كانت قد صدرت رواية الصديق محمد ملص: “إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب”. وقد وضعت لروايتي أثناء الكتابة هذا العنوان: (إعلانات عن مدينة سوف تعيش بعد الحرب) تيمناً برواية صديقي. لكنني حين دفعت بروايتي إلى الطباعة اخترت أن أعنونها باسم القرية – فضاء الرواية، وجعلت لها عنواناً فرعياً هو (ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب)، لكي أنأى عن عنوان رواية محمد ملص. ولأن الرواية منعت في سورية منذ صدورها في القاهرة عام 1977، فقد نسيتها حتى صدرت الطبعة الثانية في دمشق عام 1995، فاستفاق العنوان القديم، وأورثني الندم الذي سيظل أهون من ندمي على “أسمار الليالي”. وقد قالت العرب: لات ساعة مندم.

وحيد الطويلة: ندمت مرة

العنوان الوحيد الذي تمنيت تغييره بعد صدور العمل كان لمجموعتي القصصية “كما يليق برجل قصير”. أتصور أن لفظ “قصير” حددّ الأفق، وربما أغلقه. فكرت أن يكون مثلًا “كما يليق برجل”.

كنت قصيرًا وأنا طفل. دخلت المدرسة بعمر أربع سنوات، وكان زملائي بالطبع أطول مني قامة، خاصة أن هناك من كان بعمر ثماني سنوات. ظل هذا إحساسًا يطاردني، ووضعت لفظ “قصير” لأتخلص من هذه الحكاية وأستطيل. ورغم ثقتي في عناويني الأخرى، إلا أن ذلك لا يعني دائمًا أننا قادرون.

عادة، لا أضع عنوانًا إلا وأنا مغرم به. بالطبع لست مطمئنًا على طول الخط. يهرب الاطمئنان كلما زاد اليقين.

مرة، تمنى علي الروائي الكبير خيري شلبي، حين اقترحت عليه العناوين التي في رأسي، أن أغير عنوان روايتي “أحمر خفيف” إلى “ساقية العفريت”. قال: “شوف الحلاوة عندما يقول واحد لآخر: هل قرأت ساقية العفريت؟”. تفهمت ساعتها حسّ العامية في العنوان، وغرام خيري بلعب الألفاظ.. لكنني مضيت في غيي.

عنوان “باب الليل”، مثلًا، كان اختياري الأول. لكنني كنت كمن يحن لحبيبة ضائعة يعرف أنها لن تعود. والرواية داخل المطبعة فكرت أن أغير العنوان إلى “بنات الأحد”. وهو عنوان لافت راق لمترجم إيطالي. لكنني تراجعت.

أحتار الآن بين عنوانين لعملي الجديد: “عصب مكشوف” أو “عصب عريان”، لكنني سأتبع قلبي وأجد الطريق.

حاتم الصكَر: كمن يزيل نبتة زائدة

حين وصلني سؤال “ضفة ثالثة” عن ندم المؤلفين على عناوين أعمالهم أو تغييرهم له لاحقاً، كنت ـ وفي مصادفة موضوعية ـ في خضم اهتمامات عنوانية؛ منها بحث عن عتبات نصوص الشاعر محمود حسن إسماعيل، وفي مقدمتها عناوينه التي تشي بخطابه الشعري الرومانسي، والبحث عن عنوان بديل لكتاب لي قيد الإصدار لم يرتح صديقي إلياس فركوح له، واقترح استبداله. لكنني، رغم الانغماس العنواني واهتمامي به كموجّه قويّ للقراءة، عدتُ بذاكرتي إلى مساجلة من طرف واحد مع أدونيس، قمت بها نهاية الثمانينيات في مجلة “الناقد”. فقد صدرت لأدونيس وقتها الطبعة الرابعة لأعماله الشعرية الكاملة. وأول ما لاحظته هو تغيير أدونيس للعنوان المثبت في طبعات سابقة. فالطبعة الأولى 1971 بمجلدين حملت عنوان (الآثار الكاملة – شعر أدونيس) فيما صارت بطبعة 1985 (الأعمال الشعرية الكاملة) يعلوها اسم أدونيس. وتأملت الفرق بين الآثار والأعمال ولم أجد مبرراً كافياً للتغيير. وزاد استغرابي حين وجدت عناوين دواوينه قد تغير بعضها. فديوان “وقت بين الرماد والورد” أصبح (هذا هو اسمي)، وهو عنوان إحدى القصائد الثلاث الطويلة في الديوان. كانت القصيدة عند نشرها عام 1969 وما تلاها قد نالت اهتماما نقديا كبيرا، وتبيّنَ أثرها في شعراء المرحلة، وأعيد نشرها في عدة أمكنة وبلدان. هي ذات موقع خاص إذن حتى في نفس أدونيس، كما صرح في أكثر من مقابلة صحافية معه. فضلًا عن تكريسها لذاته وفكره ومعاناته الروحية. لكن أدونيس لا يفعل ذلك بندم فهو يقول إن النص ليس وثيقة، والقصيدة ما دام صاحبها حيا فهي مفتوحة لأنها فعل لا ينتهي. ويشبه عمله في التغيير بعمل من يدخل حديقته فيرفع نبتة زائدة هنا أو يضيف ما يراه مناسبًا.

هذا التسلط على النصوص أبنيةً وعناوينَ وإهداءات أثار انزعاجي بكوني، نصيَّاً، أدرس الملفوظ بما هو متحقق في ظرف كتابته، وما يحف به من إشارات في مقدمتها العتبات.

لقد تحول في الطبعة الجديدة عنوان ديوان آخر يبدو أن أدونيس ندم عليه. فاستبدل العنوان الأول “كتاب القصائد الخمس تليها المطابقات والأوائل” إلى عنوان جديد يبعد الحس التراثي، فسمّاه “المطابقات والأوائل” كما امتدت يد التغيير لعناوين القصائد، وسأمثل لبعضها فحسب: “صوت” أصبحت في الطبعة الجديدة “براءة” و”تقادير” أصبحت”رؤى” و”خر الدرب” أصبحت “الأشياء”.

نتساءل أخيرًا: هل يصح ذلك التغيير مبررًا لمنح النص “مزيدا من التوهج.. من التعمق والأصالة” كما كتب أدونيس في إشارات الطبعة الرابعة؟ القراءة كفيلة بالتحقق من ذلك، وليس مجالها هنا دون شك.

أمجد ناصر: “هنا الوردة”

كنت قد أشرت في مقال لي في “العربي الجديد”، موخراً، إلى اكتشافي تشابهاً بين عنوان روايتي الجديدة “هنا الوردة” ومجموعة قصصية للكاتب البحريني أمين صالح صدرت أوائل سبعينيات القرن الماضي. لكن هذا العنوان ليس لأمين وليس لي. أصله لماركس وله تكملة بحيث يصبح كالتالي: “هنا الوردة، فلنرقص هنا”. أو “هنا نرقص”، وذلك حسب الترجمة. وهو ما اختاره صالح. أي حوّل المقولة كلها إلى عنوان مجموعته القصصية. العناوين مشكلة حقيقية. يعني، لم أفكر بأن عنوان ديواني الشعري الثاني “منذ جلعاد كان يصعد الجبل” كان يمكن أن يكون أجمل، أو أكثر دلالة، لو أنه اقتصر على الكلمتين الأوليين منه: “منذ جلعاد”، إلا بعد صدور الديوان، حتى إنني كلما ذكرت عنوان ديواني هذا، في حديث أو مقالة لي، لاحقاً، اقتصرت على تلك الكلمتين. كنت أتساءل: لماذا كان يصعد الجبل؟ من هو الذي كان يصعد الجبل؟ مع أن جلعاد جبل في وسط الأردن. العنوان يقود القراءة في أحيان كثيرة. إنه العتبة التي تدخل عبرها البيت. قد لا يهتم البعض بالعتبة وسوف يقولون لك: المهم هو البيت، لكن لا، العتبة أول البيت. مدخله. لذلك كان القرويون في بلادنا، وربما لا يزالون، يضعون خرزة زرقاء، أو حدوة حصان، على عتبة البيت. أو يكتبون آية من القرآن، أو قولًا مأثورًا لدفع الحسد، أو لرفع آية الشكر لمن منَّ على الأهلين بهذا الكرم.
هكذا العنوان مهم. إنه الاسم أيضًا. تصوروا لو أن عمر الشريف أصر على اسمه: جوزيف شلهوب. قطعًا لن يكون عمر الشريف. أخيرًا.. كنت أرغب فعلًا في أن أُسمي روايتي الأخيرة “هنا الوردة”: “في الليلة “الظلماء”. أو “رياح لطواحين الهواء”. أو “محاق”. أو “الضيف”. لكن أياً من هذه العناوين التي اقترحتها على دار النشر (الآداب) لم يلق إعجاباً. فتِّش عن غيره. كانوا يقولون. نريد عنوانًا جذاباً للقراءة. لقد اختاروا العنوان الذي بعثت به إليهم يائسًا من العثور على العنوان المطلوب: “هنا الوردة”، فقيل لي هو ذا.
الآن، صدرت الرواية. لكني أعرف أن العنوان أخذ القراءة في اتجاهات قد لا تكون من مسعى الرواية ولا مما كانت تصبو إليه من قراءة أو تأويل. ندمي ليس لأن هناك عنوانًا لمجموعة قصصية سبقتها إلى الصدور، كلا، بل لأن العنوان قد يكون قيَّد الرواية في مطرح غير مطرحها.



صدى الشام