on
أعمال رسامين تونسيين راحلين في قصر بلدية باريس
ليس للمرء سوى أن يعبر عن صدمته السارة بحجم الإقبال الشعبي على حضور تظاهرة الكتاب المغربي الذي أقيم في قصر بلدية باريس. فعلى عكس ما يُشاع بطريقة ارتجالية من أن الكتاب الورقي هو ظاهرة في طريقها إلى الاندثار، تؤكد الحشود البشرية التي غصت بها قاعات ذلك المبنى التاريخي العريق أن الورق لا يزال مطلوباً.
متعة النظر إلى الكتب هي بالنسبة إلي فعل سعيد. غير أن تلك المتعة لم تكن السبب الذي دعاني إلى الحضور إلى القصر الذي كان الدخول إليه فرصة لم أحظ بها في زياراتي السابقة لعاصمة النور. كان هناك معرض فني تونسي يُقام على هامش تلك التظاهرة هو ما استدعاني. ولأن ذلك المعرض يتألف من لوحات منتقاة من مجموعة صدر بعل الفندقية التي سبق لي أن اطلعت على جزء منها فقد كنت على يقين من أن العرض سيكون مفاجئاً لمن لا يعرف شيئاً عن سيرة الرسم في تونس. وهي سيرة اكتظت بالكثير من التجارب الفنية ذات الملامح الشخصية التي جعلت من أصحابها رموزاً للحداثة في بلد، نجح مجتمعه في تركيب هويته على أساس المزج بين التراث والمعاصرة.
أربعة فنانين أساسيين من تونس هم علي بن سالم ونجيب بلخوجة وعبدالرزاق ورضا بالطيب، بالإضافة إلى الجزائري محمد النبيلي كانت لوحاتهم مادة المعرض الذي قام بتجهيزه والإعداد له رضا العموري، مؤسس رواق الفنون والناشط في مجال الترويج للأعمال الفنية منذ سبعينات القرن الماضي.
وكما يبدو فإن رضا العموري الساعي إلى تكريس مفهوم السياحة الثقافية لم يقع اختياره على الفنانين الأربعة بسبب شغفه الشخصي بجماليات أساليبهم، بل بسبب القيمة الفنية التي انطوت عليها أعمالهم التي صارت جزءاً رئيساً من التاريخ الفني المعاصر في العالم العربي. ما يعرفه العموري أكثر من سواه أن هناك فراغاً هائلاً سيقع، إن تم القفز على أولئك الفنانين الأربعة. لقد وهبوا الرسم التونسي الحديث مقومات شخصية ستكون دائماً مؤهلة للتعريف به وتقديمه إلى العالم.
حضر علي بن سالم (1910 ــ 2001) برؤاه السريالية التي تضع الواقعي في خدمة المتخيل كما لو أنه الجهة التي تصدر عنه أسباب العيش ونجيب بلخوجة (1933 ــ 2007) بعمارته التونسية التي أضفت عليها قدرته على الاختزال الكثير من الشعر وعبد الرزاق الساحلي (1941 ــ 2009) بلغته البصرية التي تعتمد على الكثير من التفكيك، لتصل إلى الأقل من الفتنة الكامنة التي هي خلاصة حياة كاملة ورضا بالطيب (1939ــ 1993) بتجريدياته التي تصدر عن حنين عاطفي إلى الأماكن التي شكلت مفرداتها علامات لزمن ضائع.
يهبنا المعرض نظرة شاسعة تمكننا من التعرف إلى المناطق الحساسة في جغرافيا الفن التونسي الحديث وهي مناطق لا تزال مجهولة بالنسبة إلى كثير من متابعي الفن العربي. وهنا بالضبط تكمن أهمية محاولة من هذا النوع. فهي لا لا تهدف إلى التعريف بتجارب فنانين بقدر ما تسعى إلى إعادة قراءة المنجز الفني نقدياً، من أجل تكريس عدد من الحقائق التاريخية. وهي حقائق سيكون من شأن تكريسها أن يؤدي إلى اكتشاف تاريخ فني كان إلى وقت قريب يمثل الهامش في الحركة التشكيلية العربية.
هذا المعرض وإن أقيم على هامش تظاهرة للكتاب المغاربي هو في حد ذاته تظاهرة فنية، هي من وجهة نظر منسقه خطوة أولى في طريق التعريف بالمجموعة الفنية التي تضم حوالى ألفين من الأعمال الفنية التي استغرق جمعها أكثر من ثلاثة عقود. لقد خيل إلي يوم زرت ذلك المكان أنني أسير بين أروقة متحف للفن الحي، حيث لا حدود تقف حائلاً دون الانتقال بين الأزمنة ما دام الجمال هو هدف الرحلة.
صدى الشام