الجانب المظلم من الفيسبوك في تكوين الرأي العام وتمزيق المجتمعات


أعتقد أنَّه ما من داعٍ لأن أبدأ هذا المقال بمقدمةٍ كلاسيكية طويلة تثير إملال القارئ حول كون الفيسبوك مثل أية تكنولوجيا أخرى هو سلاحٌ ذو حدين، وأنَّ فيه من الإيجابيات والمزايا ما يجعل الحديث عن الاستغناء عنه ضرباً من الجنون بالنسبة للغالبية العظمى من مستخدميه. فهو قد أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياة معظمنا. لكن هذا المقال يركِّزُ على فكرةٍ واحدة هي دور النظام الرقمي الذي يعمل وفقه الفيسبوك في تخليق الرأي العام بطريقةٍ خبيثة تؤدي إلى ترسيخ الانقسامات والخلافات ضمن المجتمعات وفرز الناس إلى مجموعات مختلفة ومن ثم تحويل هذه المجموعات إلى كانتونات فكرية منغلقة على نفسها تناصب المجموعات الأخرى الرفض والإقصاء والعداء.
لاحظ عزيزي القارئ عندما تتصفح الصفحة الرئيسية للفيسبوك التي تظهر عليها كتابات الآخرين من أصدقائك، والتي أصبحت بمثابة الصحيفة اليومية الأكثر أهمية على مدار الساعة لمعظم مستخدمي الفيسبوك، كيف أنَّ الصفحة تعرض لك بكثافة منشورات أصدقاء محددين وصفحات محددة وتعطي لها الأولوية في الظهور عندك، بينما هناك أصدقاء آخرون قد لا تنتبه إلى ما يكتبون من منشورات دون أن تبادر شخصياً بالدخول إلى صفحتهم، وإلَّا فإن الفيسبوك قد لا يعرض عليك شيئاً مما ينشرون إلا مرة في الأسبوع أو مرة في الشهر رغم أنهم ينشرون بشكل يومي أو شبه يومي.

لاحظ أيضاً أن الفيسبوك سوف يقترح عليك بعد ذلك بشكل دوري صداقة أشخاص جدد يشبهونك وسوف يقترحك عليهم أيضاً بالمثل.
السبب يكمن في أن نظام الفيسبوك محكوم بمتواليات حسابية معينة تقوم بنسج دائرة خاصة من العلاقات حولك بعد تقييم طبيعة حركتك ومشاركاتك في الموقع، وعلى أية صفحات تتفاعل وتضع التعليقات أو إشارات الإعجاب.
في الواقع، إننا لو كنا نستخدم الفيسبوك كمجرد أداة تواصل مع العائلة أو الأصدقاء فإن هذه الآلية الرقمية مفيدة بالتأكيد من خلال مساعدتك على تيسير التواصل مع الأشخاص الذين يفهم الفيسبوك من دراسته لحركتك أن لهم الأولوية عندك وعدم إزعاجك بمنشورات أشخاص قد لا تعنيك أخبارهم يومياً.
لكن عندما يكون استخدام الفيسبوك من أجل مناقشة القضايا الحساسة في الرأي العام، كالسياسة مثلاً، تصبح هذه التقنية خطيرة للغاية، بحيث يتم من خلالها تشكيل مجموعة من الثقوب السوداء التي لا تلبث أن تبتلعك بعد أن تقضي فترة وجيزة في الفيسبوك.
لأعطي مثالاً على ذلك، دعنا نفترض أن هذه التقنية الرقمية غير موجودة. ولنفترض أن هناك موضوعاً معيناً قد شغل اهتمامك لفترة وجيزة أو مجموعة معينة من الآراء كانت تروق لك وتميل إليها ولمتابعة من يقول بها. عندما تبقى على تواصل واحتكاك دائم مع أشخاص يمثلون توجهات أخرى قد تميل بعد فترة للإطلاع على آراء أخرى والمقارنة أو على الأقل سوف يبقى التفاعل المعرفي لديك مستمراً وسوف تتمكن من رؤية الصورة دائماً بشكل أشمل وأوسع ما يجعل آراءك أقرب للاعتدال كما يجعلك تفهم أن هناك طيف واسع من الآراء والتوجهات المختلفة عنك.
أما بوجود التقنية الرقمية المذكورة، فإن الفيسبوك بمجرد أن يكتشف طبيعة الآراء التي تروق لك يقوم بابتلاعك ضمن إحدى ثقوبه السوداء. لتجد نفسك فجأة ضمن قوقعة ضيقة من الأشخاص والآراء التي تكون محكومة بقالب فكري تنميطي مجال الحركة والاختلاف فيه شبه معدوم، والعجيب أنه برغم ذلك يدفعك للاعتقاد أن هذه القوقعة الضيقة هي العالم الحقيقي من حولك. وهكذا يتحول الفيسبوك فجأةً إلى مجموعة من العوالم المختلفة جداً عن بعضها البعض التي يعتقد رواد كل منها أن الفقاعة التي يعيش ضمنها هي العالم الحقيقي ويمثل الغالبية الساحقة من الناس، وكل ما عدا ذلك من الناس هم شواذ ويمثلون فئة ضيقة.
وفجأةً تجد نفسك مدفوعاً بإرادة مجهولة لتكتب وتنشر ما يرضي الآخرين من حولك في هذه القوقعة الضيقة لكي تنال تصفيقهم وإعجابهم و”لايكاتهم”.

ومن مشاكل الفيسبوك هنا أيضاً وبرغم أنه قد قلَّص إلى حد كبير المسافة بين شخصيات الرأي العام في عالم الواقع مع الشخصيات النشيطة على الفيسبوك، وخلق حالة إيجابية من التواصل بين عامة الناس و”المشاهير” فأزال جزءاً كبيراً من “الطبقية الاجتماعية”. وساعد كثيرين ممن يستحقون أن يكون لهم منبر للتعريف عن إمكانياتهم التي لولا الفيسبوك لربما بقيت مطمورة تحت التراب، إلا أن ذلك أدى في الوقت نفسه إلى أن منزلة المفكِّر والمثقَّف والشخصيات الناجحة في عالم الواقع قد أصبحت تحظى بنفس المنزلة التي يحظى بها الجهلة والمتهكمون والرعاع. فتضيع المجهودات الحقيقية لمن يريد تقديم ما فيه فائدة للآخرين وقادر على تقديم إضافة حقيقية ضمن مستنقع من القاذورات والسخافات التي قد تحظى في غالب الأمر بدرجة أكبر بكثير من التصفيق والتهليل والتفاعل والإعجابات. وهو ما سوف يقودك شيئاً فشيئاً في سبيل حصولك على إعجاب الآخرين ممن حولك في القوقعة أن تنحدر إلى مستوى عبثيتهم، وهو ما يسمى بظاهرة “الدهماوية”. أي عندما يتخلى المثقف عن دوره في توعية الآخرين ويصبح همه أن يلهث هو خلف رضاهم وتصفيقهم.
وهكذا فإنه حتى ضمن القوقعة الفيسبوكية الضيقة التي يتم فيها تكرار واستجرار نفس الآراء، يتم تغييب الأصوات التي تتميز بالحكمة أو الاعتدال أو العقلانية أو الوعي، ويصبح السباق بين الأفراد المنتمين للقوقعة سباقاً لإظهار المزيد من المغالاة والتطرف والصخب والشعبوية في الدفاع عن منظومة الآراء والأفكار نفسها. وهكذا فإن هذه القوقعات أو الكانتونات الفكرية نفسها تنجرف أيضاً عبر الزمن لتصبح أكثر تطرفاً.

إنَّ ظاهرة “اللايك” بحد ذاتها هي ظاهرة أخطر بكثير مما نتصور، فهي تبدأ كمجرد تلبية لغريزة موجودة لدى كل البشر هي غريزة الشعور بتقدير الآخرين، وتكون مرتبطة بدرجات متفاوتة من شخص لآخر بغريزة الشعور باحترام الذات والرضى عن النفس وشعور الإنسان بأهميته. لكن شيئاً فشيئاً ومع ارتفاع معدل “اللايكات” التي يتلقاها الشخص تتجاوز القضية مجرد الحاجة للشعور بتقدير الآخرين إلى مرحلة الأنا المتضخمة التي تدفع الإنسان للشعور بأهميته الفائقة ونجوميته وأن له “جمهور”. ويصبح الحصول على “اللايك” مرتبطاً بشكل مباشر بإفراز هرمون السعادة “الدوبامين”، ما يجعلك بحاجة إلى جرعات دائمة قد تكون يومية أو مرتين أو ثلاث مرات في اليوم، وكلما أدمنت على معدل معين من “اللايكات” ارتفعت العتبة المطلوبة لإفراز هذا الهرمون، فتحتاج إلى المزيد والمزيد من “اللايكات”. أما إن حصل وبدأ معدل اللايكات بالنزول ينتابك مباشرةً الشعور أن شيئاً ليس على ما يرام وتصاب بالإحباط. وهي نفس آلية عمل المخدرات تماماً التي يصبح تعاطيها شرطاً لإفراز هرمون السعادة وكلما أدمنت عليها أكثر تطلب الجسد جرعة أعلى منها، بينما عندما تتركها وتبتعد عنها يتم تثبيط إفراز الدوبامين لفترة لا تستطيع من خلالها أن تشعر بالسعادة ويصبح العالم من حولك مملاً ومضجراً وسيئاً للغاية.
وإذا ربطنا بين ما سبق عن “اللايكات” وبين ما سبق ذكره أيضاً عن الثقوب السوداء والقوقعات المنغلقة على نفسها، وعن الظاهرة الدهماوية التي تحكم الفيسبوك. نفهم كيف تعمل هذه العوامل مجتمعةً على أن تدفعك باتجاه الانحدار نحو التطرف والمغالاة والشعبوية وتهميش أو تسفيه الرأي الآخر أو عدم ملاحظة وجوده أساساً والكثير من الآفات المدمرة للمجتمعات لا سيما التي تعاني أساساً من ظروف معقدة كالتي تعيشها مجتمعاتنا وبلداننا اليوم. ويصبح مجرد طرحك لآراء مخالفة لمن حولك في القوقعة ناهيك عن الخروج منها نهائياً عملية بمنتهى الصعوبة لما لذلك من عواقب في خسارة “الجمهور الوهمي” وانحدار معدل “اللايكات” وبالتالي شعورك بالعزلة! أي يصبح الأمر بالفعل شبيهاً بترك تعاطي مخدر معين بعد الإدمان عليه. وبذلك تخسر حريتك تماماً وتصبح عبداً لمنظومة معينة من الأفكار لا تستطيع طرح ما يخالفها ولو قليلاً.

ما هو الحل؟
الحل يبدأ بتشخيص المشكلة وأن نفهم الآلية السابقة التي يعمل وفقها نظام الفيسبوك، وبمجرد إدراك ذلك يكون نصف الحل، أما نصف الحل الآخر فيجب أن يكون مبنياً على فهمنا السابق، وأستطيع بدوري أن أتبرع ببعض النصائح والاقتراحات التي قد تكون مفيدة لمن يقرأ ويكتب على الفيسبوك
أولاً: لا تسمح للفيسبوك إطلاقاً بأن يكون هو مصدرك الرئيسي للحصول على الأخبار والمعلومات. ولذلك حاول أن تتجنب تصفح الصفحة الرئيسية للفيسبوك في ساعات يومك الأولى، وأن تُعوِّدَ نفسك على تصفح بعض المواقع الإخبارية –واحرص أن تكون متنوعة في توجهاتها-، والأفضل بالإضافة إلى ذلك إن كان لديك شبكة جيدة من العلاقات التي تقدر من خلالها على تقفي الأخبار من معارف شخصيين موثوقين على الأرض في مكان حصولها. ومن ثم كوِّن رأياً خاصَّاً بك ودعه يختمر لديك قليلاً بعيداً عن التشويش والاطلاع على آراء الآخرين.
من الممكن إن شئت أن يسبق ذلك تصفحك للصفحة الرئيسية للفيسبوك لدقائق معدودة لمجرد الاطلاع السريع عليها كـ “موجز أنباء” ومن ثم تذهب لتقرأ عن التفاصيل في أماكن أخرى. لكن إياك والغوص في تفاصيل الخبر من خلال منشورات الفيسبوك.
ثانياً: بعد أن تكون رأياً مبدئياً، يمكن أن تطَّلع على آراء وتحليلات عدد محدود من الأشخاص الذين ثبت لك عبر المتابعة الطويلة أنهم يمتلكون المصداقية والعقلانية والحكمة والقدرة على تحليل الظواهر وقراءة المعطيات واستقراء المستقبل، وحاول أن يكونوا متنوعين في خلفياتهم وتوجهاتهم لكي تطِّلع على أكبر طيف ممكن من الآراء. قد يساعدك ذلك على أن يكون رأيك أقرب للواقع بعد اطلاعك على وجهات النظر المختلفة. لكن كمرحلة ثانية بعد أن يكون لك رأي مبدئي خاص بك لكي تكون متحرراً من التبعية الفكرية المطلقة.
ثالثاً: بعد ذلك يمكنك الإطلاع بشكل سريع على ما يكتبه عامة الناس على الفيسبوك بعد أن يكون رأيك قد أصبح راسخاً لديك بحيث لا يمكن التشويش عليه. إطلاعك على ما يكتبه عامة الناس في هذه المرحلة قد يفيد في مساعدتك على كيفية إيصال الفكرة وطريقة صياغتها فقط دون المساس بجوهرها. فقد تفهم من خلال هذا الإطلاع أن نشر الفكرة بطريقة معينة قد يؤدي إلى إساءة فهمها مثلاً وأنه من الأفضل إيصال الفكرة بطريقة مختلفة.
رابعاً: حاول أن تعوِّد نفسك ألَّا تهتم إطلاقاً بكمية “اللايكات” التي تتلقاها بعد نشرك لرأي أو فكرة معينة. تذكَّر أنك لست نجماً سينمائياً أو ممثلاً على المسرح حتى يكون لك جمهور ومصفقون، وأنك لست “شيخ جامع” لك رواد يجب أن يبصموا لك بالعشرة كلما تفوهت بكلمة. وحتى لو كنت سياسياً فأنت لست أمام استحقاق انتخابي يتطلب جمع الأصوات. ناهيك عن أن شعبيتك على الفيسبوك في غالب الأحيان لا تعني أن لك شعبية حقيقية على أرض الواقع لأسباب شرحناها في المقال. وناهيك أيضاً عن أن مقدار رضى الناس عما تكتب ليس مؤشراً على الإطلاق على صوابية الفكرة أو عدم صوابيتها، بل العكس هو الصحيح في غالب الأحيان.
ضع في رأسك أنت تكتب لإيصال فكرة تؤمن بها وتعتقد أنه من المفيد إيصالها للآخرين، فمن أعجبته ووضع لك “اللايك” فشكراً له. ومن أعجبته ولم يضع لك “لايك” فلا بأس، المهم أنك حققت هدفك بإيصال الفكرة. ومن يقرأ ولا تعجبه فكرتك يكفي أنه اطَّلع عليها ويكفي أنه سوف يطلع غداً وبعد غد وبعد شهر وبعد سنة على آراء مشابهة وسوف تساهم عبر الوقت في إحداث تغييرات في منظومته المعرفية. تذكَّر أنك بمجرد أن تكتب وتنشر فكرة معينة فإن عدد الأشخاص الذين يطلعون على ما كتبت سواءً أعجبهم أو لم يعجبهم، وسواءً عبروا عن ذلك أم لم يعبروا، هو بالتأكيد يفوق عدد مجموعة من الأصدقاء الذين يجلسون معك في المقهى وتشعر بالغبطة والإنجاز لمجرد أن تطرح عليهم فكرة وتعجبهم ولو كان عددهم معدوداً على الأصابع،. وقد يفوق بكثير عدد الطلاب في قاعة جامعية يجهد المدرِّس نفسه ساعة أو ساعتين كاملتين ليشرح لهم فكرة ما. وهذا في الحد الأدنى لمعظم من يكتب على الفيسبوك. لكن نظام الفيسبوك يوهمك بأن الشيء الطبيعي هو أن تكتب كلمتين وتحصد وراءها عشرات أو مئات أو آلاف الإعجابات. هذا ليس منطقياً.
عندما يكون عدد “اللايكات” خمسة أو عشرة، إعلم أن مائة شخص على الأقل قد قرؤوا ما كتبت، وهو عدد يستحق أن تقدم لهم أفضل ما يمكن أن تقدمه من رأي مفيد وصادق وهادف بعيداً عن الإسفاف والحرص على كتابة ما يرضي “الدهماء” أي عامة الجمهور.

لا يدَّعي كاتب هذا المقال أنه كان عصياً عن المرور بالظواهر “الفيسبوكية” سالفة الذكر في المقال أو الوقوع في فخها، بل على العكس تماماً إنك عندما تعيش التجربة شخصياً يكون بإمكانك توصيفها بشكل أفضل. كما إنَّ كاتب المقال لا يدَّعي أنَّه اليوم حُرُّ تماماً مما ذُكِر من ظواهر انتقدها أو يحاول إصلاحها، بل هي مبادرة لنحاول معاً تغيير نمط تفكيرنا وطريقة مشاركتنا في هذا العالم الحقيقي-الافتراضي وتعاملنا معه. لأننا في الواقع مقبلون اليوم على عصرٍ مذهل من الحريات والانفتاح، لكن في الوقت ذاته نحن أمام تحدٍّ صعب مع عشرات الأساليب المستحدثة لقمع هذه الحريات وإعادتنا إلى قوقعاتنا الضيقة دون أن ندرك ذلك. وإن الفيسبوك دون مبالغة هو أحد أهم الأدوات التي يجب أن نفهم آلية عملها ونتعامل معها بالشكل السليم إذا أردنا تكوين رأي عام في مجتمعاتنا وبلداننا يمكن أن نبني عليه مستقبلاً منيراً. وإلَّا فهو نفسه سوف يكون الأداة التدميرية الأخطر باتجاه تجهيلنا وتسفيهنا وتفقيرنا معرفياً وشرذمتنا وصدمنا ببعضنا البعض وتدفعنا لتدمير أنفسنا.



صدى الشام