on
العربية في فرنسا: ما بعد “الألسن النادرة”
في أيامنا هذه، تتقاسم تدريسَ اللغة العربية، في فرنسا، فضاءاتٌ متباينة، تتجاذبها رؤى متنافرة، ويطغى على التعامل بينها حذرٌ وحيطة، هما من تضخيم المخيال وتبعات التوجّس.
وفي أحسن الأحوال، ترتسم بينها قطيعةٌ، فينعدم الحوارُ، ويعمُّ التجاهل كأنَّ الواحد منها، في عين خصمه، لا وجود له ولا اعتبار: وأول هذه الفضاءات، المدارس والمعاهد الرسمية، والجامعات العمومية والخاصة، التي تشرف عليها وزارة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي العتيدة. وهي التي قرَّرت، ومن عقودٍ مضت، تعليم العربية لغةً أجنبية، أي لغة أقليات، حتى أُطلِق عليها وعلى شبيهاتها، هذا التوصيف langues rares، أي “الألسن النادِرة”، ونُدرتها – فيما زعموا – في قلة عدد الناطقين بها.
اليوم، باتت العربية تدرَّسُ في المستوى الثالث (بعد الفرنسية والإنكليزية)، وقد يكون في هذه التسمية إحالة ماكِرة على العالَم الثالث. ويحسن التنويه إلى أنَّ تدريسها محكومٌ بمحاور أربعة رئيسة هي: الفضاء والتواصل، الأساطير والأبطال، فكرة التقدّم، وأشكال السلطة.
وذلك استدعاءً لأقطاب الحداثة إلى دائرة اللغة، وربطاً لها برهانات الواقع، مع التشديد على بعض الثيمات الجريئة مثل الجنس في سرديات “ألف ليلةٍ وليلة”، وشؤون المجون في العصر العباسي، بالإضافة إلى نصوص العابثين من “أهل الابتداع”.
ولا بأسَ من التذكير بأنَّ تدريس العربية في المدارس الحكومية، قد ترسَّخ، في السنوات الأخيرة، بسبب الحجم الديمغرافي المتزايد لأبناء العرب في فرنسا، من الجيل الثاني، والثالث وحتى الرابع، ثمَّ بات في حُكم الضرورة الأمنية بعد أن قرّرت الحكومة الحالية مكافحة التشدّد بين الشباب والمراهقين من خلال الإشراف على تعليمهم لغة آبائهم وتعميمها، ربطاً لهم بهويّتهم وتثميناً لثقافاتهم-الأم.
ومزية هذا التعليم أنه يُدرج قواعد العربية من نحوٍ وصرفٍ، بشكلٍ تدريجي، في المقرّرات المرتبة حسب تصوّر بيداغوجي، يبدأ في الثانوية وقد يتواصل في أروقة الجامعة، لمن أرادَ التخصّص فيها، وفي حرم الجامعات تُدَرَّس مع اللغة، الثقافات التي صاحبت نشأتها وتطوّرها عبر القرون، فعبَّرت عنها كتبُ الأدب من عُيون التراث.
وغالباً ما يتوجَّه الطلاب، بعد طول معاشرة نصوصها، إلى مَجال الترجمة المختصة، فيُخرجون من تلك العيون بدائِعَها، وينقلونها إلى الفرنسية. فلا عجب بعد ذلك إذا رأيت “مثالبَ الوَزيرَين” لأبي حيان التوحيدي أو “الأحكام السلطانية” لأبي الحسن الماوردي، وقد أكبَّ عليه الباريسيون يطالعونه بأحدِ المقاهي في شَغفٍ، بعد أن نُقلَ إلى لغة موليير.
وأما الفضاء الثاني فهو الجمعيات الخاصة، وأغلبها ينشط ضمن المساجد والمُصلّيات المَحكومة بقانون الجمعيات لسنة 1905، ويطغى عليها الجانب الديني وتحفيظ القرآن وتلقين المضامين الغيبية بشكلٍ عام. على أنَّ ما يميِّز هذا الفضاء هو طاقته الكبرى على استيعاب مئات الأطفال والمراهقين الذين يسعى آباؤُهم إلى تعليمهم العربية ومبادئ الدين الإسلامي في تلك الفضاءات، وهو أمر يثيرُ حفيظةَ العلمانيين ويشغلُ رجال الأمن.
وغالباً ما يفتقدُ هذا المجال، على كثرة مُرتاديه وعجيب مُثابرتهم، إلى الرقابة البيداغوجية الصارمة، فتعوزه المُقرَّرات الواضحة مع هيمنة كبيرة للأفكار الدينية، وبَعضها يتصادم، بشكلٍ صارخٍ، مع الواقع الفرنسي ومقولات العلمانية فيه، كالحديث عن “الكفّار”، وشتم اليهود واستِصغار “النصارى”.
ولأمانة الوصف، تجدر الملاحظة أنَّ هذه الجمعيات قد ازدهرت، وطوَّرت في السنتيْن الأخيرتين مناهجها، و”جاهدت” للملاءمة بين دروسها وبين احتياجات تلاميذ فرنسا، دفعاً لشكاوى آبائهم، فصارت كتبُها أكثر جاذبيةً، أُلّفت جُلُّها وطُبعت في فرنسا، ولم تُستجلب من الدول العربية كما كان يحدث سابقاً، وإضافة إلى ذلك قرّرت – في مناورة ساذجة – زيادة مادة التربية المدنية لتعليم آداب السلوك وترسيخ قيم المواطنة، إلى جانب القيام برحلات تثقيفية إلى معالم فرنسا التاريخية.
وأما ثالث هذه الفضاءات، ولعلها الأقلَّ ارتياداً، فهي الجمعيات الثقافية العِلمانية، التي يختلف إليها الفرنسيون من غير المسلمين، وفيها يكابدون لتعلّم مبادئ اللغة العربية، ولا سيما السجلَّ الدارج منها، بُغية استعمالها في التداولات اليومية، إلى جانب الاطلاع على أشتاتٍ من لغة الصحافة وصيغ المجاملة، مع التركيز على الثقافة بمعناها الفني مثل حصص الاستمتاع بالموسيقى ومشاهدة الأفلام، ويلاحظ أن لهم شغفاً خاصاً بآلة الناي أو بحِصص تعلّم الخط العربي وفنِّ الطبخ والنقش في الخشب، مع إقصاء تامٍّ للبعد الديني كأنْ لم يرتبط يوماً بتاريخ لغة الضاد.
على أنَّ لهذا الفضاء مزيّةٌ، فهو يستقطب كافة الفئات العمرية والمِهنية، ولا يميِّز بين قاصديه، ولا سيما الكهول، وحتى الشيوخ من الفرنسيين، الذين لا يحرّكهم سوى حبّ الاطلاع والرغبة في استكشاف حضارة الآخر- العربي.
وهكذا، لا يؤكّد هذا المسح السريع تعدّد فضاءات تدريس العربية في فرنسا فحسب، بل يُظهر تعقُّد العلاقات بينها، واحتدام التناكر في تعاملاتها، الأمر الذي يدعو المُختصّين إلى ضرورة البدء بإصلاح هذا الوضع المرتبك، والعمل من ثمَّ على التقريب بين وجهات النظر وأهداف المناهج، صوناً لطاقات القائمين على الشأن التربوي، حتى لا يصير تعلّم هذه اللغة مطيةً للتشدّد، في ظل غياب رقابة صارمة على المقرّرات، وحتى لا ينفر منها طُلابها، وخصوصا شبابُ “شبكات التواصل الاجتماعي”، الذين يصدُّهم ضمور المنهجية الواضحة.
كما تتأكد ضرورة تطوير المضامين المعرفية وتحديثها بالاستفادة من المرجع الأوروبي في تدريس اللغات الذي باتَ يربط تعلمها بالكفاءات التواصلية، وليس بتراكمات المعطيات النحوية الجامدة أو بلاغة النصوص المنقطعة عن واقع أوروبا المتسارع.
وأولى هذه الخطوات، إجراء حوارٍ جادٍّ، بين فضاءات تدريسها الثلاثة التي وصفناها، وليس عبر شعارات جوفاء، تطلق في المناسبات (مثل اليوم العالمي للعربية)، بل عبر عمل دؤوب ينجزه كل المهتمين بلغة الضاد، بعد القبول المشترك بعمل كلٍّ طرفٍ، ومعرفة خصائص جُمهوره وقيودِه وصعوباته.
صدى الشام