‘فارس البحرة : جسد القائد’
9 آذار (مارس)، 2017
لا أبالغ إن قلت أن حافظ الأسد قد دخل لاوعي الانسان السوري كإحدى المكونات الرمزية التي تباغتنا في الأحلام و تتداعى إلى التشبيهات اللغوية.
كان لورود إسمه في حقبة الثمانينيات و التسعينيات، و ربما إلى درجة ما حتى اليوم، أن يضفي على الحديث مسحة رسمية و تهيباً و حذراً. فلا تستطيع أن تروي نكتة تتناوله إلا لمن تثق به ثقة مطلقة، فذكره مرتبط بحدود الثقة بالآخرين. و لرأيه أو ما ينسب إليه من رأي أن يحرف مسار محاكمة، فتتهافت الحجج و تصير بلا فائدة بدخول رأيه عليها، فيرسم بذلك حدوداً للعقل أيضاً.
كانت له كما هو معروف أهواء سياسية متعددة و توجهات هجينة، فعماد حكمه و جوهر منهجه الإمساك بمفاصل السلطة جميعاً، و المحافظة عليها، ثم توريثها. وسيلة إقناعه الأساسية: التلويح بالقدرة على الإفقار و الإيلام الجسدي و القتل و سلب الحرية. لم تكن الأفكار والمبادئ التي تنسب إليه مرجعية حكمه بل التهديد الذي يرافق ذكر إسمه مرجعية الأفكار و المبادئ و قوام هيبتها. تؤكد صوره و تماثيله أن الوجود الجسدي للرئيس أهم من فكره و توجهاته. الجسد يخاطب الجسد و يهدده بالإيلام و يذكّره أن المكان لا يتسع لأكثر من جسد واحد إلا تكرّماً. فرغم الغياب الجسدي الفعلي تشير الصورة إلى الحضور المطلق و الملء الكامل لأي فراغ و الإجابة المفحمة عن أي تساؤل. الجسد، الذي لم يشتهر بالشهوانية، بل على العكس، بالتقشف و الصبر على المرض، صنو للإسم. مرجعية القرار تمليها الخيارات التي يتفرد فيها العقل الوحيد المسموح له أن يشتغل بحرية في سوريا(ه). الإسم و العقل و الجسد مترادفات، و الصورة ترمز لهم جميعاً و للبلد. فهو يعمل في جسد البلد و يحركه كيفما ارتأى، كأنه جسده الخاص. عشنا في جسد حافظ الأسد، في إسمه، في عقله. يختزل البلد ويرمز لها، و يرمز في الوقت نفسه إلى الألم و القتل و الإفقار و حبس الحرية، و إلى التهديد بكل ذلك. تسامُحُهُ: أن يسمح للآخرين بتبادل العبث بأجسادهم و عقولهم و سمعاتهم كما يشاؤون، شرط أن يعرفوا حدودهم: حدوده. حدود جسده و صورته و إٍسمه و عقله.
أرعب شعباً بأكمله، جاعلاً الامتثال لسلطته و الانسحاق أمامها شرط الاستفادة و التقرب منه. و كلما قصرت المسافة إليه زادت السلطة التي يستطيع الشخص أن يمارسها على الآخرين، و لكن معها تزيد براهين الولاء التي ينبغي إشهارها، و بالتالي الشعور الفردي بالخضوع و فقدان الحرية. و ما إقبال الجلادين على تعذيب المعارضين و المبادرة إلى التفنن في إيلامهم و إذلالهم في ظني إلا لأن المعارض يذكّر الجلاد بخضوعه و خوفه و تنازله عن عقله و جسده و ضميره بالمعنى الواسع للكلمة أمام سلطات، ما الأسد إلا الرمز المطلق لها. فالجلاد سجين جسد القائد أو فلك جسده و هرمية الأجهزة الأمنية و العسكرية و المؤسسات الإدارية هي هرمية ضمن نفس الجسد، في مداراته، أو تحت نعليه. الحرية الوحيدة التي لاتخيف مؤيدي النظام هي في الحيز الذي يفصل أجسادهم عن جسد القائد الذي يحتويها كالوعاء و أسماءهم عن إٍسمه و عقولهم عن عقله. تجاوز هذا الحدود يعني رعباً شخصياً يداهمهم من جميع الجهات، يقاومونه بممارسة الحرية المطلقة على مصائر الآخرين ضمن حدود الحيز المباح و في هاويته التي يقذفونها بأجساد المعارضين.
عاش أبناء الرئيس مشكلة مزدوجة. فبينما ترتبط السلطات جميعاً و منها السلطة الأبوية بصورة حافظ الأسد بشكل رمزي، نجدها في حال أبنائه مطابقة تماماً، الأب القائد هو أبوهم الفعلي.
ربما من أسباب القبول الشعبي النسبي الذي حظي به بشار الأسد خلال فترة حكمه، و قبل تورطه بمجازر تستحضر بقوة ذكرى أبيه الدموية و تطابِقُه معها، نوع من التضامن الخفي مع شاب عاش طفولته تحت السماء الصخرية لهذا الأب الأسطوري. لا يصعب اجتلاء الأدلة التاريخية على معاناة الابن من أدائه الجسدي و من مخارج الحروف لديه و نبرة الصوت و طريقة الكلام و اختيار المفردات، بالإضافة إلى المنطق الصوري و غياب الكاريزما. هو رهان على تعاطف الضحية مع الضحية إذاً، و على أن الاشتراك بأقدار متشابهة قد يكون مقدمة ممكنة لإيجاد حل توافقي مقبول لكابوس جمعيّ.
ورث بشار الأسد جسد الوطن المطابق لجسد الأب، و كان عليه أن يحافظ على (خلود) هذه المطابقة. تجنب أن ينشر صوره بشكل واسع كما كانت حال صور أبيه، ولا سيما في البدايات، بل إنه كثيراً ما احتمى بصورة الأب إلى جوار صورته على و اجهات الثكنات و الفروع الأمنية و المؤسسات الحكومية. كان هناك شبه تواطؤ بينه و بين الشعب، كأنه يقول: أنا نسخة مخففة من أبي، أقوم بتسيير أمور جسده بعد الموت، و أكثِر من الابتسام، مني العطاء و المنح، أما القمع، الذي عانينا منه جميعاً، فهو يعود للسيد الوالد و الإرث الثقيل الذي أجبرنا جميعاً على احتماله.
الشعب الذي رآه بشار الاسد منذ طفولته يطيع أباه و يزين له هذه الطاعة و ما تستلزمه من ابتلاع رعب الأب (خانه) إذ تمرد تاركاً الابن وحيداً يواجه مخاوفه الشخصية التي تهدّد بالانفجار.
في الفعل التحرري للثوار السوريين تجاوز لا لرموز السلطة السياسية فحسب، الأهم من ذلك تجاوز رموز السلطة النفسية، تجاوز يخيف أزلام النظام لأنه فوق التهديد بكسر احتكار السلطة، يمثل تهديداً بانفجار مواجهات داخلية في ذواتهم. فمعظم المنضوين في أجهزة الحكم القمعية خارجون من أزمات في العلاقة مع السلطة المنزلية و الاجتماعية حسموها عبر قبول التراتبية الاجتماعية المتعضية في جسد القائد الرمز، فيقبل الفرد مقداراً من الخضوع للرؤساء مقابل مقدار من إخضاع المرؤوسين و المحكومين، و تتوسط صورة الأسد الرمزية كل ذلك في الزيادة و النقصان كما تفعل الأختام الرسمية. المتظاهرون الذين يتحدون رمز السلطة المطلق بلا مواربة يجرون الموالين إلى أرض تنفجر فيها من جديد صراعاتهم الشخصية مع مصادر السلطة. تدمير رموز السلطة يعني تجريد النظام من هيبته التي إن هي إلا سطوته على البشر النابعة من أعماقهم و التي تعبر بشكل ما عن تراضيهم على العبودية، فلا يبقى للنظام في غيابها سوى العنف، أي قوة فيزيائية عمياء جوفاء خالية من أي بعد رمزي، و تعبير انتقامي عن الخوف بسبب فقدان القدرة على الإخافة، و الاصطدام العاري، لأول مرة ربما، بالمخاوف الشخصية المكبوتة منذ الطفولة أو اليفاعة الأولى .