أطفال التوحّد السوريون ضحيةُ اللجوء والجهل والإهمال


يُعتبر مرض التوحّد واحداً من الاضطرابات التي تعيق قدرة الطفل على معالجة المعلومات المحيطة به في الحياة الاجتماعية، وتسبب له صعوبات كبيرة في الاتصال بمن حوله، واكتساب مهارات التعلم المعرفية والسلوكية الجديدة.
ووفقاً لحقائق علمية فإن التوحد يعد حالياً من أكثر الأمراض شيوعًا والتي تؤثر على تطور الطفل حيث تظهر أعراضه خلال السنوات الثلاث الأولى من العمر ويستمر مدى الحياة.
ورغم تأكيد العلماء حديثاً إمكانية إعادة تأهيل الطفل لاسيما في حال الكشف المبكر عن المرض، وشفائه منه بالكامل في حال إخضاعه لتدريبات خاصة، فإن بعض الأطفال السوريين محرومون من حقهم في الحصول على الرعاية الخاصة التي تمكنهم من إعادة دمجهم مستقبلاً في الحياة وذلك نتيجة لظروف النزوح والحرب.

بادرة
في تركيا التي يقطنها قرابة 3 ملايين نازح سوري يعاني الأطفال السوريون المصابون بمرض التوحد من صعوبات وتحديات كبيرة أبرزها غياب مراكز التدريب الطبية المخصصة لهم، وضعف اهتمام المدارس السورية بمثل هذه الحالات نتيجة لغياب الكوادر المدّربة، يضاف إلى ذلك عامل اللغة والصعوبات المادية التي تحوْل دون إمكانية حصول هؤلاء على التدريب في مراكز طبية تركية خاصة منتشرة في العديد من الولايات، حيث تبلغ قيمة ساعة التدريب الواحدة للطفل في هذه المراكز 60 ليرة تركية.
لكن قبل حوالي عام افتتح شبان سوريون متطوعون في مدينة الريحانية جنوبي تركيا أول مركز سوري مجاني متخصص في تدريب الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.
ويعتبر “مركز سوا”- الذي يديره الطبيب النفسي يوسف إدريس بمساعدة 7 مدربين أخصائيين- المركز الوحيد للأطفال السوريين في ولاية هاتاي جنوبي تركيا، ويعالج فيه حالياً 30 طفلاً، وتصل قدرته الاستيعابية لـ45 طفلاً، وهو عدد قليل بالمقارنة مع إحصائيات يقدمها المركز لعدد الأطفال السوريين المصابين بالتوحد في إقليم هاتاي وهو 400 طفل.
وحول الخدمات التي يقدمها المركز المدعوم من قبل “جمعية ياشين الطبية” و”مركز الرعاية الصحية” قال زياد ياسين مسؤول العلاقات الخارجية والتواصل، إن الأولوية بالنسبة لهم هي “إعادة تأهيل الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، وصعوبات التعلم والتوحد والتأخر العقلي، من خلال تدريبهم على مهارات معرفية وسلوكية تساعدهم على التواصل والكلام والنطق واللعب مع الآخرين لإيصالهم في النهاية للاندماج الكامل مع المجتمع ليكونوا أسوياء”.
وأوضح ياسين في تصريح لـ “صدى الشام” أن الخدمات جميعها مجانية، وتشمل حالياً بالإضافة للعلاج في المركز، جولات ميدانية على دور الجرحى والمدارس السورية في مدينة الريحانية لتقديم الاستشارات والدعم النفسي وحملات توعوية.
ويستقبل المركز-وفق ياسين- الأطفال بين عمر3 إلى 14 سنة، وهو يضم مركز سمعيات لتحسين النطق، وقسم النطق والتواصل، حيث يجري إعداد خطة علاجية شهرية لكل طفل، ويتم تعديلها أسبوعياً بحسب الحاجة لمراقبة تطور الطفل.
يعتبر “مركز سوا” المركز الوحيد للأطفال السوريين في ولاية هاتاي جنوبي تركيا، ويعالج فيه حالياً 30 طفلاً

أثر ملموس
لا يمكن المرور بالمركز دون ملاحظة أياديه البيضاء وأثره على الأطفال المتوحدين. فهنا التقينا “رجب” الذي يعد واحداً من الأطفال الذين يتدربون ويعالجون في المركز.
استطاع الطفل البالغ مع العمر 7 سنوات بعد 15 جلسة وتدريب بطريقة “بازل البسيطة” اتقان مهارات معرفية جديدة كالقدرة على تمييز الأشكال وجمع الكرات ووضعها في مكانها المخصص.
أما “عمر” ذو الستة أعوام فقد كان يعاني قبل دخوله للمركز من وجود حياة نمطية وما يسمى علمياً باللغة الصدائية (تكرار فقط لما يسمعه بدون وجود معنى) بالإضافة لضعف شديد في الاستجابة للأشياء المحيطة به، لكنه بات اليوم قادراً على التحدث بلغة وظيفية والإجابة على العديد من الأسئلة الشخصية وتمييز الألون بفضل التدريب.

الطفل المتوحد “رجب” والذي يعالج في “مركزسوا” استطاع بعد 15 جلسة وتدريب أن يتقن مهارات معرفية جديدة كالقدرة على تمييز الأشكال وجمع الكرات ووضعها في مكانها المخصص.

معوّقات تهدد الاستمرار
لا يتوفر لمئات الأطفال السوريين من ذوي الاحتياجات الخاصة فرص التدريب ويعود ذلك وفق ياسين إلى “غياب الاهتمام وضعف التمويل من قبل الداعمين لمثل هذه المشاريع”.
وحول أسباب قلة أعداد الأطفال الذين يتم علاجهم مقارنة مع الإحصائيات في الولاية (أقل من 10% منهم) أرجع ياسين الأمر إلى عوامل اقتصادية تحول دون وصول الأطفال إلى المركز، وعوامل أخرى تتعلق بالجهل والظروف الاجتماعية.
فالطفل الذي يقيم في مدينة أنطاكيا مثلاً (تبعد عن الريحانية 25 كم) يحتاج شهرياً لـ 500 ليرة تركية للوصول مع أحد أفراد عائلته إلى المركز، وهو مبلغ مرتفع جداً بالمقارنة مع معدل دخل السوريين (800 ليرة وسطياً) في هذه المنطقة.
ولا يقتصر الأمر على افتقاد الأطفال إلى مشروع نقل، بل على أن المركز يعاني كذلك من ضعف كبير في التمويل حيث لم يتلقّ موظفوه -بحسب تأكيدات مسؤول العلاقات الخارجية- رواتبهم منذ ثلاثة أشهر، وهي ليست المشكلة الرئيسة لأن عملهم منذ البداية كان تطوعياً، والمركز مهدد بالإيقاف في حال عدم تأمين إيجار المبنى وبعض الأدوات الطبية المتطورة.

الطفل الذي يقيم في مدينة أنطاكيا يحتاج شهرياً لـ 500 ليرة تركية للوصول مع أحد أفراد عائلته إلى “مركزسوا”، وهو مبلغ مرتفع جداً بالمقارنة مع معدل دخل السوريين (800 ليرة وسطياً) في هذه المنطقة.

مساعدتهم أولوية
تنتشر في أوساطنا الاجتماعية الكثير من الأفكار الخاطئة عن مرضى التوحد ومنها أن الأطفال المصابون بهذا المرض لا يعجزون تماماً عن الاستيعاب والتعلم، ولا يمكنهم أيضاً إظهار مشاعرهم الخاصة والاستجابة لأي تواصل جسدي وعاطفي وتكوين صداقات.
وفي حين تظهر الأرقام أن 67 مليون شخص في العالم مصابون بالتوحد، يؤكد العلماء أن أطفال التوحد الذين سيتم تشخيص حالاتهم هذا العام يبلغ عددهم أكثر ممن سيتم تشخيص إصابتهم بالسكري والسرطان والإيدز معاً.
ويعتبر الذكور أكثر عرضة من الإناث بهذا المرض بنسبة 4 مرات، ويؤكد العلماء أن الكشف المبكر عن المرض وملاحظته، وإخضاع الطفل للتدريب يساعد على الحد من آثاره ومن الممكن حتى شفاءه.
وتشخيص التوحد أصبح فى الدول المتقدمة يتم مبكراً من عمر 18 شهر فى مراكز متخصصة من خلال استعمال اختبارات عالمية معتمدة فى تشخيص التوحد مثل اختبارADI ، ADOSأما في الدول التي لا تحتوي هذه المراكز فينصح المختصون بمراقبة الطفل في حال ظهرت عليه الأعراض كضعف العلاقات الاجتماعية (التواصل) مع والديه ومع أفراد العائلة والغرباء، وضعف التواصل والتعبير اللغوي أو تأخر في الكلام، وأحياناً استعمال كلمات غريبة من تأليف الطفل وتكرارها دائماً أو إعادة آخر كلمة من الجملة التي سمعها، بالإضافة إلى أعراض أخرى مثل غياب التجديد في الاهتمامات و النشاطات التي تكون متكررة كاللعب بالسيارات فقط، أو المكعبات.
وفي مثل هذه الظروف التي يعيشها الأطفال السوريون سواء في دول النزوح أو في مناطق الصراع تبدو الحاجة ملحّة لتوسيع الكوادر التدريبية وإطلاق حملات توعية لمساعدة الأطفال والتعريف بمشكلتهم، لاسيما مع بروز أمراض مشابهة للتوحد مثل الأمراض النفسية والعقلية بفعل ظروف المعارك والنزوح.



صدى الشام