Written by
MICRO SYRIA ميكروسيريا
on
on
الفاعلية النفسية والأمل: مساعدة المجتمعات على معالجة نفسها
بقلم أندريس باركيل-أوتيو. ترجمه/ته إلى العربية نزيهة بصيري.
(هذا المقال منجز بالتعاون مع أوبن ديموكراسي) بعد دخول الحرب السورية عامها الخامس، ولجوء حوالي خمسة ملايين من سكان سوريا خارج البلاد، ونزوح 6.5 ملايين في الداخل، وموت 450 ألفًا، أصبحت هذه الحرب كارثة إنسانية بمقاييس غير اعتيادية، فما أهمية النظر في خدمات الصحة العقلية في ظلّ هذا الواقع المروّع؟ وهل يُفضَّل أن تعالَج حالات المرض الشديد أوّلًا (أي اعتماد المقاربة السريرية)، أو يُستحسن اعتبار تعزيز الروابط المجتمعية هو الأولوية (أي اعتماد مقاربة مبنية على صحة السكان)؟ لذلك، سيتناول هذا المقال نموذجًا يرتكز على مجالس مستقلة التنظيم تابعة للمعارضة كشريكٍ رئيسي محتمل في تعزيز القدرة على معالجة الصحة العقلية في المجتمعات المتأثرة بالصراع. المقاربة الشمولية إنّ أوّل ما يخطر في بال المرء عند التخطيط لتقديم خدمات الصحة العقلية معالجةُ اضطرابات ما بعد الصدمة، أي معالجة المشاكل السريرية بمقاربات سريرية. إلا أنّ هذا المنظور محصورٌ ومحدودٌ، ويؤدي في حالات كثيرة إلى اعتبار المعاناة الاجتماعية مرضًا أكثر ممّا يجب. وبهدف مواجهة هذه المشاكل واعتماد مقاربة أكثر شمولية لمعالجة الاضطرابات العقلية التي تعاني منها المجتمعات، رعت منظمة الصحة العالمية الضوابط الإرشادية للجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات للصحة العقلية والدعم النفس/ اجتماعي في حالات الطوارئ. فطوّرت هذه الضوابطُ نظرتنا إلى خدمات الصحة العقلية، ووسّعتها لتشمل المشاكل النفس اجتماعية مثل تأمين ملاجئ آمنة، وتقديم الطعام، وتوطيد الروابط بين أفراد العائلة الواحدة، فضلًا عن تزويد المجتمع بدعم واسع. ويشمل الأمن والخدمات الأساسية عدّة عناصر، منها تحقيق الأمن والحوكمة المناسبة، وتقديم خدمات تلّبي الاحتياجات الجسدية الأساسية. ويعني دعمُ الصحة العقلية في هذا الإطار التشديدَ على أن يتم تنظيم هذه الخدمات وتقديمها بما يضمن كرامة الإنسان ويعزّز الصحة والسلامة العقليتين. أمّا مسألة دعم العائلة والمجتمع فتأت في المرتبة الثانية أهميةً، مباشرةً بعد الاستجابة للاحتياجات الأساسية. فمن المعروف أنّ الحرب تزعزع العلاقات العائلية والشبكات المجتمعية، لذلك من المفيد إعادة بناء هذه الروابط من خلال مبادرات كالسعي إلى تحسين التواصل، وتتبّع أفراد العائلة وتوحيدهم، وتقديم المساعدة في مراسيم الحداد والرسميات المجتمعية الأخرى. دور المجالس المحلية من سيتولى تقديم هذه الخدمات؟ عادةً ما يقع تنفيذ إطار العمل هذا على عاتق المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية في فترات ما بعد الكوارث، إلّا أنّ ذلك قد يكون أمرًا صعبًا في السياق السوري الحالي. أضِف إلى ذلك أنّه من الأفضل البحث عن حلول مستدامة نظرًا لأنّنا نواجه صراعًا مطوّلًا قد يستمر لسنوات وسنوات. وأخيرًا، مهما اقتُرح من حلول، من المهم طرح نماذجَ سبق وتمّ تنفيذها، نماذجَ تتلاءم مع السياق المجتمعي الحالي. خلال السنوات الأخيرة، ظهرت عدّة أمثلة عن “مجالس” ذاتية الحكم بشكل تلقائي في عدد من المدن الخاضعة لسيطرة المعارضة في سوريا، وبرزت هذه المجالس بالتحديد عندما تحرّرت المجتمعات من الدولة وخدماتها ومن متطلباتها القاهرة. ولم تأتِ هذه النظم الاجتماعية استجابةً لتعليمات فرضتها الحكومة، بل كانت نتيجة تعاون طوعي وابتكار مبدع. فتشكلت بشكل أساسي كحل عملي وغير إيديولوجي للمشاكل التي واجهتها المجتمعات وقتذاك، مثل العيش تحت القذائف والبراميل المتفجرة، وعدم توافر مياه الشرب والوقود والكهرباء بشكل مستمر أو غيابها تمامًا. واعتمد تطور هذه المجالس (سواء عبر خوض انتخابات ديمقراطية، أو التوافق مع القوات المسلحة، أو التمثيل المبني على العائلات أو أوساط القوى المحلية) على الموقع الذي تواجدت فيه وعلى الجهات الفاعلة المحلية. وكان المفكر والناشط السياسي الدمشقي الراحل عمر عزيز من أوّل من كتبوا عن المجالس المحلية التي تسعى إلى مساعدة الأفراد على “إدارة حياتهم بشكل مستقل عن مؤسسات الدولة وأجهزتها، وتأمين فضاء للتعبير الجماعي يدعم تعاون الأفراد في ما بينهم.” ونادى عزيز بالانقطاع التام عن الدولة القائمة، وتحقيق التحرّر الجماعي من دون انتظار أن يتغيّر النظام أو أن تَستبدل إحدى القوى الحاكمة الأخرى، إذ كان يؤمن بقدرة المجتمعات على تأمين حرّيتها بصرف النظر عن التقلّبات السياسية. ومن أبرز أدوار هذه المجالس مساعدة الأفراد على تأمين الملجأ والطعام والأمان، ومساعدة العائلات على التواصل مع أحبائها، وتقديم الدعم المعنوي والقانوني للمعتقلين وعائلاتهم وأيضًا الإبلاغ عن أوضاعهم، وتنسيق الخدمات الطبية والتغطية الإعلامية والمبادرات التعليمية. تعزيز الفاعلية النفسية للقضاء على العجز المكتسب ما العلاقة بين المجالس المحلية ومستقبل صحة الشعب العقلية؟ لقد اعتادت البشرية منذ سنوات كثيرة على ما يُعرف في علم النفس بـ”العجز المكتسب“، ويعني ذلك تقبّل الفرد حالة معينة بشكل كامل. فعندما يتعرّض الفرد للصدمات بشكل متكرّر، من دون أن يستطيع مواجهتها أو تجنّبها، ينصاع إليها ويتقبّلها. وعندما يُفتح أمامه مجال للإفلات من الصدمات في وقت لاحق، لا يغتنم فرصة النجاة هذه. والفاعلية النفسية (أي وعي الفرد بأنّه قادر على المبادرة بأفعاله وتنفيذها والتحكّم فيها) هي في الواقع أمر خطير، حتى أنّ الأنظمة الاستبدادية تعتمد على اندثار الفاعلية النفسية وترسيخ العجز المكتسب لكي تبسط سلطتها ويستمر حكمها. فعندما لا يعود هناك من مهرب، يصبح الحل الوحيد التأقلمَ مع النظام القائم. وتُفقِد هذه النفسية الفردَ رغبته في النمو والازدهار، فيركّز عوضًا عن ذلك على الحؤول دون أن تزداد الأمور سوءًا (خصوصًا إن اقتنع بأنّه ليس في وسعه تحسين أحواله). ويشكّل الخوف من النظام والاعتماد عليه مزيجًا سامًّا من شأنه القضاء على الفاعلية النفسية تدريجيًّا. ومن العلاجات القادرة على شفاء العجز المكتسب تعزيزُ “الفاعلية النفسية”. فهذه الأخيرة تشير إلى إمكانية أو حالة أو وضع ما يسمح للمرء بممارسة السلطة أو فرضها، والعملُ الناجم عن الفاعلية النفسية هو كل عمل يؤدي إلى نتيجة توقّعها الفرد مسبقًا، سواء جزئيًّا أو كليًّا. واستنادًا إلى مراجع خاصة بعلم النفس، تتألف الفاعلية النفسية من ثلاث خطوات هي التبصّر والاختيار والمبادرة الذاتية. ويُقصد بـ”التبصر” مرحلة التخطيط للانخراط في نشاط جديد، وذلك قبل المباشرة بهذا النشاط فعليًّا. والاختيار هو انتقاء الفرد تصرّفًا معيّنًا، إذ تختلف الآليات التي يعمل بها الدماغ عندما يُرغَم المرء على القيام بأمر ما عن تلك التي يتم تفعيلها عندما يختار هذا التصرّف نفسه. بذلك، يُلغي العجز المكتسب عاملَ الاختيار. أمّا المبادرة الذاتية فهي عملٌ يقوم به الفرد بمجهوده الخاص. ففي حالة العجز المكتسب التي تمّ تناولها أعلاه، لا تختبر ضحية الصدمات الفاعليةَ النفسية إن تمّ وضع حدّ للصدمات من دون أيّ تدخل من الضحية نفسها، إذ لم تؤدّ هذه الأخيرة أي دور في عملية الوقف. ومع أنّ ذلك يريح الضحية من معاناتها، إلا أنّه لا يُلغي العجزَ المكتسب. من هنا، إنّ مساعدة الآخرين ليست بالضرورة الطريقة الأمثل لتحسين وظائفهم، فلا يكتسب المرء الفاعلية النفسية ولا يصبح متمكنًا من دون أن يبذل هو نفسه جهدًا في سبيل ذلك. ومن المبادئ المتعارف عليها في علم النفس أنّ الشعور بالقدرة على التحكم بالأمور من أهم ما يُشعر المرء بالأمان. وفي المقابل، من أبرز أعراض الصدمات التي تظهر لدى من يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة الشعور بالعجز وفقدان أسس الثقة والتوقعية والأمان. ويمكن لمس مفهوم الفعالية الذاتية أو الفاعلية النفسية الشخصية عندما يؤمن الفرد بأنّ أفعاله ستؤدي على الأرجح إلى نتائج إيجابية. ويمكن توسيع هذا المفهوم ليشمل الفعالية الجماعية التي تدل على إيمان جماعة بقدرتها على إحداث نتائج إيجابية. وقد أظهرت الأدلة أنّ الأشخاص الذين اختبروا صدمات في حياتهم معرّضون لفقدان حس الكفاءة والمهارات اللازمة لحل المشاكل التي قد يواجهونها. لهذا السبب تسعى التدخلات الناجحة إلى تمكين المجموعات الاجتماعية لتصبح قادرة على تخطي الصعوبات. وبما أنّه من غير الواقعي بعض الشيء اعتبار أنّ الفرد قادر على تنمية هذا الشعور بالكفاءة بنفسه في ظروف كظروف الحرب، يتعيّن على المجتمعات أن تتعاون لحلّ المشاكل التي تعاني منها. وتعترف منظمة الصحة العالمية بأهمية الفعالية الذاتية في التعافي، وتشدّد لذلك على تعزيز الاكتفاء والحكم الذاتيين لدى الشعوب المتأثرة بالحروب. وقد تساهم النشاطات التي يبتكرها المجتمع وينفذها بنفسه في تكوين حس بالفعالية الجماعية. فعلى سبيل المثال، من أبرز التدخلات على صعيد الصحة العقلية التي تلت التسونامي في آسيا جهود بذلها المجتمع لدعم إعادة بناء قوارب صيد السمك، ما سمح للصيادين باستعادة سبل عيشهم. كذلك، في ما يتعلّق بالأطفال والمراهقين، تعترف منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) بأهمية إعادة تأهيل المجتمعات المدرسية في سبيل استعادة الأطفال لحس الفعالية الذاتية. وفي ظلّ غياب أنظمة الصحة العامة المحلية، قد يشكّل دعم شكلٍ ما من المجالس الذاتية الحكم حجرَ الأساس للعمل وفقًا للمقاربة المبنية على صحة السكان العقلية. وتبرز أهمية ذلك بشكل خاص في حالة النازحين أو اللاجئين الذين سُلخوا عن مدنهم بعيدًا عن أنظمة الحكم الرسمية وغير الرسمية التي يألفونها. وقد أظهرت الدراسات أنّ تعافي الأفراد من الآثار النفسية للعنف السياسي يعتمد بشكل كبير على نظرة الأفراد إلى قدرة المجمتع على التعافي، إذ تعزّز الروابط بين الأفراد والمجتمعات فاعليتهم وقدرتهم على التعافي، وذلك عبر تكوين الصداقات وتَشارُك معنى المعاناة وتشكيل رؤية مستقبلية جماعية. وباختصار، قدّمت دراسات أجريت في بلدان أخرى معرّضة بشكل واسع للصدمات والصراعات المطوّلة أدلةً قويةً تظهر أنّ البرامج المجتمعية فعلًا تؤثّر بشكل إيجابي على تعزيز قدرة الأفراد على التعافي ونشر استراتيجيات التأقلم المرن. كما يزيد تمكين حس الفاعلية النفسية والتحكم لدى المجتمعات من فعاليتها الجماعية ورأسمالها الاجتماعي. ويشكّل ذلك الركيزة الأساسية لتعافي المجتمع من الصدمات الجماعية التي تظهر في الصراعات المطوّلة. إلّا أنّه يتم تجاهل هذه المقاربة في معظم الأحيان والتركيز عوضًا عن ذلك على الحالات السريرية الفردية. لكن في الواقع، لمعالجة الفرد الواحد، يجب أولًا مساعدة المجتمع ليعالج نفسه ويتخلص من العجز المكتسب، وأيضًا تعزيز الفاعلية النفسية والعمل. وسيشكّل ذلك بالتالي ركيزة تُبنى عليها برامج سريرية تتناول المشاكل السريرية الفردية لا العكس. تعديل: كان العنوان الأساسي لهذا المقال “المجالس المحلية المعارضة قد تسهم في معالجة مشاكل الصحة العقلية” لكن تم تغييره في 14 آذار / مارس 2017. (الصورة الرئيسية: نموذج عن برج الساعة في حمص الذي أصبح أشهر نقطة تجمّع في المدينة خلال المظاهرات ضد النظام في العام 2011. وقد بنى هذا النموذج سكان سوريون من مخيم كاتسيكاس للاجئين في منطقة إيبيروس في اليونان. وتشير الساعة إلى الوقت الذي دخلوا فيها إلى المخيم وكُتب تحت الساعة: “توقف الوقت لمّا أتينا هنا.”/ أيلول / سبتمبر 2016 (أندريس باركيل-أوتيو/حكاية ما انحكت))المصدر