ألغازٌ وغازٌ وموت

7 أبريل، 2017

سلام الكواكبي

وقع ما كان في الحسبان، وأعيد استخدام السلاح الكيماوي بحق المدنيين فجر 4 نيسان/ أبريل الجاري، وسقط من جرّاء هذا العمل الإجرامي عشرات الضحايا. وقد انتشرت الصور المفزعة من عين المكان، ووُثِّق الحدث بعدسات الكاميرات التلفزيونية، ونُشر ما أمكن نشرُه من دلائل، ومن مؤشرات حسيّة على طبيعة ونوع السلاح المستخدم من فرق متخصصة، ومزوّدة بالأدوات الملائمة درءًا لكل تشكيك أو خلط في أوراق المتسببين، تمارسه عادة أبواق حكومية، وغير حكومية، مرتبطة بمسار تسويغ الموت السوري ومساهمة في استمراره. ورغم الصدمة، فعملية التوثيق جارية على قدم وساق، كما جرى سابقًا في مواقع جرائم قصف عدة. وكما يقول ديفيد كراين، المدعي العام الدولي في المحكمة الخاصة بجرائم الحرب في سيراليون، وتابع انشاء ملف “القيصر” المرتبط بمؤسسات التعذيب وضحاياها في سورية، فإن “المقتلة السورية هي أكثر الأحداث التي عرفها التاريخ توثيقًا وتراكمًا في الأدلة”.

في المقابل، يُطرح السؤال تلو السؤال، منذ وقوع هجوم آب/ أغسطس 2013 الكيماوي أيضًا في غوطة دمشق، وأسفر حينذاك عن أكثر من 1400 ضحية، عما إن كان بإمكان، أو بإرادة، ما يسمى بالمجتمع الدولي أن يحمي حيوات الناس بعيدًا عن الحسابات السياسية أو العسكرية المتشابكة في المشهد، ويتلطى بها بعض مسوّغي الصمت الشريك في الموت، ويبدو ان الجواب الصادم والحاسم هو: لا شيء. وهذا الـ “لا شيء” ليس نابعًا من عجز المنظومة الدولية، بنصوصها وبأدواتها، عن اختراع العجلة، وإيجاد مخرج، أو عدة مخارج، للمأزق الدموي / الكيماوي الجارية ملاحظته بهدوء وسكينة في سورية، بل أيضًا عن فقدان الرغبة والإرادة.

نفي سريع وتخبّط إعلامي ووقائع متناقضة، ساقتها وسائل إعلام المؤسسة الحاكمة، ومن يدور في فلكها من وسائل إعلامية “لبنانية”، ترتبط بها عقائديًا أو أمنيًا أو مصلحيًا. تأكيد مفاجئ، ولو بنصف الكلام، من المتحدثين العسكريين الروس، حماة الديار الفعليين لمؤسسة حاكمة نظريًا، على الرغم من مغالطاته التقنية، إلا أنه حمل صفعة قاسية تُشير إلى ما لا تُحمد عقباه بخصوص الرضا الدائم والمباركة العمياء لأفعال المَحمي. مقابل هذه المواقف النافية، أو المؤكدة بخجل، جاءت الوقائع الدامغة التي نقلتها وكالات مستقلة، كما علّق عليها خبراء دوليون في السلاح الكيماوي، كما في تفاصيل المعادلات المرتبطة بانتشار غاز السارين وتأثيراته المختلفة، جاءت هذه الوقائع كلها؛ لتضع المجتمع الدولي في موقف محرج جدًا، خصوصًا أن زعماءه كانوا يُنهون لتوّهم مؤتمرًا “هائلًا”، يستضيفه الاتحاد الأوروبي حول اعادة إعمار سورية. هذا الاتحاد الذي تصح فيه تسمية “منظمة غير حكومية دولية” أكثر من كونه مؤسسة سياسية عابرة للحكومات؛ بسبب انعدام دوره السياسي، وخصوصًا في ما يخص الملف السوري. وهو قد وجد دريئته في ملف إعادة الإعمار، كما سبق له أن خَبِرَ في الملف الفلسطيني، إذ جرى تحييده عن السياسة؛ لتخصيصه بالدفع المستمر.

الإحراج الدولي تُرجم بدعوة فرنسية فورية لانعقاد جلسة طارئة لمجلس الأمن، وتصريحات “قتالية” من الخارجية البريطانية، مثلما من زعيم البيت الأبيض الجديد الذي اعترف؛ حتى أنه قد غيّر رأيه في مسار الحل السوري. جلسات مجلس الأمن الماراثونية شهدت في يومها الأول، تصلّبًا روسيًا هائلًا حمل بعضهم، وبعد سماع كلمة ممثل الجانب الروسي، للترحّم على مهنية المتوفى، فيتالي تشوركين، في الأقل في أسلوب عرضه السينيكي / التهكمي للأحداث. وقد بدا المندوب الروسي، وهو نائب رئيس البعثة، وكأنه يخطب في معهد للإعداد العقائدي المرتبط بأي نوع من الأحزاب الشمولية في العالم. وأمام الإصرار الأميركي المفاجئ نسبيًا على التنديد، فقد بدا أن الموقف الروسي في تراجع نسبي في اليوم التالي للنقاشات التي لم تصل إلى نتيجة، بسبب تعنّت الجانب الروسي.

بموازاة ما حصل، وامتلاء وسائل الإعلام بالمشاهد المروعة، سُجّل صمت عربيٌ مُريب، تخلّلته بعض التنديدات العمومية والخجولة. رافق هذا الصمت، إعلامٌ محسوبٌ على ما يسمى بقوى الممانعة والمقاومة، يُشكك -بصفاقة لا مثيل لها- في ما حصل. إضافة إلى أن العهر الإعلامي، وصل مثلًا بصحيفة الشروق التونسية إلى أن تعنون الآتي: “الجيش السوري يُصفّي عشرات الإرهابيين في مصنع كيمياوي”. فإضافة إلى صفاقة ولا انسانية عنوانٍ كهذا، فهو -أيضًا- لا يستند حتى إلى تصريحات النظام السوري نفسه، إذ ما فتئ ينفي حصول أي عمل عسكري في هذه المنطقة. وتناطح “القومجيون” العرب في طرح تفنيدات معيبة بحق العقل والمنطق. وأضيف إليهم بعض من مشوّهي الحركة اليسارية العربية، وهم كُثر، ليُزايد في الإنكار، وليتبارى مع أزلام التسلطية في تشويه الحقائق؛ وحتى في الشماتة بالضحايا. تقاطع هؤلاء مع يمينٍ عربيٍ مُصابٌ بالرهاب الاسلامي، فتنطّح -هو بدوره- لوضع اشارات استفهام جوفاء. شكك كثيرون منهم في مصدر المواد السامة، وبجهلٍ تقنيٍ عميق وجلي، واجه بعضهم تقرير لجنة التحقيق الأممية التي حسمت الجواب على ما حصل سنة 2013، في مقال لصحافي أميركي مرتزق أشار من خلاله -حينئذ- الى مسؤولية المعارضة عن قصف نفسها، وقتل حاضنتها الاجتماعية.

الإنكار الفج لوقائع موثّقة رافق كثيرًا من المصائب الإنسانية التي افتعلها البشر، فمن المحرقة النازية إلى المجزرة الأرمنية، إلى التغريبة الفلسطينية إلى المقتلة السورية، سلسلة لن تتوقف عند مساحات وجد فيها الإنكاريون مرتعًا خصبًا. في بعض الدول المتقدمة صارت القوانين تُعاقب جنائيًا إنكار الوقائع الموثّقة المرتبطة بالجرائم ضد الإنسانية، وفي بعضها الآخر، ما زال الانكاريون يُتابعون رياضتهم المفضلة وغالبًا ما تكون انتقائية: فبعض اليسار اللبناني -مثلًا- لا يجد حرجًا في أن يدعو الى اعتصامٍ يوم المجزرة للتضامن مع فنانٍ ملاحقٍ قضائيًا.

وبعيدًا عن التنجيم، ذكرت عشية البارحة على شاشة إخبارية بأن الأميركيين سيضربون رمزيًا بالاتفاق مع الروس، مثلما سبق واتفق الاسرائيليون مع الروس، على أن تنتهي في مدة محددة؛ لتُظهر اختلاف الإدارة الجديدة عن سابقتها. وفجر اليوم، وقع قصفٌ أميركي لقاعدة جوية في سورية.

الموت بأشكاله “الإبداعية” -كافة- مستمر، والإنكار الموصوم بالعار مستمر، والخيبة من الدول العربية مستمر، وعجز المجتمع الدولي لافت، والمفاوضات البازارية بين أميركا وروسيا تجري بحسب مقتضيات وأولويات اطرافها.

إبان حرب التحرير الجزائرية، كتب ألبير كامو: “لا يمكن لإنسانٍ أن يموت بسلام، إن لم يقم بعمل ما يلزم؛ لكي يحيا الآخرون”.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]