اللجوء في إسبانيا تجربة مضاعفة القهر


ميسون جميل شقير

الحرب ذلك الوحش الذي لا يشبع. الوحش الذي رباه العالم كي يبني من حطامنا أمجاده الجديدة، الوحش الذي داس على تاريخ أعرق حضارات الأرض، وجعل أهل هذه الحضارات يتحولون إلى شتات كامل، يجوب الأرض، وجعل ابن المدينة الأقدم على وجه البسيطة، يتحول إلى كلمة بلا هوية وبلا ظل. إنها صفة لاجئ.

هنا في اسبانيا، الدولة ذات الملامح العربية التي تحتفي بالكثير من الآثار الأندلسية المذهلة، هنا يصل الآن السوري الأندلسي ويدخل الأندلس لاجئًا، فقد بيته وعمله وحياته هناك في سيدة الأرض سورية، يصل إسبانيا، يجر خلفه حقيبة مليئة بالذكريات المدمرة، ويسبقه حلم بالحياة الآمنة والكريمة في بلد أوروبي، يحقق له إنسانيته بعدما دمرها قاتل، ودمرتها العقول السوداء. لكن ما لا يتوقعه السوري اللاجئ القادم هو حجم الصعوبات التي تضاعف معاناته، وتجعل حياته هنا استمرارًا لألم وخوف لا ينتهي.

هنا في مدريد يصل اللاجئ السوري، وبعد أن يقدم طلب لجوئه يُحوّل إلى أحد مراكز اللجوء الثلاثة الموجودة في مدريد، وبخلاف الوضع في باقي دول أوروبا، فإن مرحلة مركز اللجوء في إسبانيا قد تكون أجمل وأسهل مرحلة، فالمركز موجود في قلب الحياة الصاخبة لمدريد، وفيه تقدم وجبات طعام ثلاث مرات يوميًا، وتأخذ كل عائلة غرفة صغيرة بحمّام مشترك، وفي هذه المرحلة يلتحق اللاجئ ببرنامج لتعليم اللغة الإسبانية، يتضمن تدريسها لمدة ساعة ونصف يوميًا.

تستمر فترة الاقامة في أحد مراكز اللجوء بين 6-10 أشهر، يستلم اللاجئ فيها مبلغًا ماديًا بسيطًا جدًا هو 50 يورو شهريًا، مع توفير بطاقات المواصلات والخدمات الطبية والضمان الصحي.

بعد فترة الإقامة في مركز اللجوء، ينتقل اللاجئ إلى شقته الخاصة، إذ تساعد إحدى الجمعيات المدنية في دفع تكاليف الإيجار والحد الأدنى من تكاليف الحياة لمدة أقصاها سته أشهر، وخلالها يمكن لهذه المنظمات أن تدفع أيضًا تكلفة إقامة دورات تسمى دورات تأهيل عملي وهي دورات تدريبية للعمل في بعض المهن المحدودة.

بعد هذه المرحلة تبدأ المعاناة الحقيقية للاجئ، إذ يجد نفسه دون أي دعم في بلد غريب، فلا أحد يدفع أجار البيت الغالي المكلف، ويكون غالبًا أكثر من 500 يورو شهريًا، ولا أحد يدفع تكاليف الحد الأدنى للحياة، ويزيد على 600 يورو شهريًا للأسرة، ولعل أصعب ما يلاقيه هو إيجاد عمل في بلد يعيش أزمة اقتصادية خانقة، إذ إن الإسباني نفسه يعاني صعوبة بالغة في توفير عقد عمل دائم، فما بالك باللاجئ الذي لا تكفيه أبدًا ساعة تعليم في اليوم لإتقان اللغة، والبحث عن عمل على الإنترنت والنجاح في مقابلات العمل؛ لذا، فإن مأساة مادية جديدة تبدأ بالتشكل، على الرغم من الحصول على إقامة لمدة خمس سنوات في بلد يقدم لك الضمان الصحي والتعليم المجاني لمرحلة الابتدائي والإعدادي، أما في المرحلة الثانوية والجامعة، فعلى الطالب اللاجئ التقدم إلى طلب منحة دراسية، تتضمن تكاليف تسجيله فيهما.

بعد انتهاء كل المساعدات يحق للاجئ العاطل عن العمل، التقدم بطلب الحصول على راتب البطالة، والذي يبلغ 350 يورو للفرد فوق سن الثامن عشرة عامًا، إذا كان يسكن وحيدًا بدون عائلته، و580 يورو للأسرة كاملة، والراتب الأخير، على الرغم من قلته، لن تحصل عليه الأسرة قبل مضي 6 أشهر من تاريخ تقديم الطلب؛ لذا سيكون هناك نحو ستة أشهر بدون أي مساعدة، وهي فترة عصيبة ومقلقة جدًا خاصة إذا لم يستطع أحد أفراد الأسرة توفير عمل، مهما كان بسيطًا.

كل هذا يجعل اللجوء في إسبانيا صعبًا جدًا، يضيف إلى حالة اللجوء العامة حملًا ثقيلًا لا يتحمله هذا القادم من بلاد أكلت قلبه، إذ إن اللجوء هو اقتلاع كامل لنبات أرواحنا من جذورها، وإبعاد كامل لها عن تربتها التي عرفتها مذ وجدت، وعن سمائها التي فهمت لغة غيومها، وعن شمسها الكاملة التي اعتادت نباتاتنا قسوتها الحنونة.




المصدر