رسامون ألمان في دوامة اللجوء والهجرات


«فبريك» هو المصطلح الألماني المعادل لعبارة مصنع، وهو على علاقة وطيدة مع تعبير «النسيج الاجتماعي»، ولئن كان المصنع يمثل المكان حيث تنتج الأغراض والسلع، فإن «فبريك» ما هو سوى مصنع افتراضي، لإنتاج الأفكار والصور وإثارة النقاشات، كوسيط معاصر لإعادة انتاج الواقع الراهن وما يتعرض له من تحولات. والمعرض الذي يقام تحت العنوان نفسه في أروقة متحف سرسق (الأشرفية- يستمر حتى8 ايار- مايو)، بالاشتراك مع معهد غوته ومعهد ifa تعود فكرته الى الجناح الألماني في بينالي البندقية السادس والخمسين عام 2015، ويضم تجارب خمسة فنانين تجمعهم هواجس الصورية الجديدة التي تعتمد على المصنع كفكرة أو كمنصة ليس للتسجيل او التعبير وإنما للتدخل في طرح الأسئلة الشائكة ومن ثم الاعتراض.
ليس مُستغرباً ان يمثل المصنع قيمة مكانية بحد ذاته كأداة للإنتاج الفني، لاسيما أنه قد شهد أولى مغامرات التعبير الجماعي بطابعه التخريبي- الساخر المناهض للسلطة، الذي خلفته الدادائية والأفكار الثورية بمؤداها السياسي والاجتماعي والنقدي، وما تلتها من الحركات المتمردة على مراكز الثقافة التقليدية من متاحف وصالونات وقاعات عرض. فكانت الأبنية القديمة للمصانع التي خرجت عن وظائفها كمكان لإنتاج السلع، موئلاً لظهور تيارات مضادة للفن، ما دفع قدماً نحو المعاصرة لاسيما على صعيد الفنون التجهيزية والتفاعلية في ألمانيا.
إلا ان الإشكالية الحقيقية التي تواجه الزائر للمعرض هي ان المادة البصرية بكل حيثياتها لا تحمل بحد ذاتها قيمتها إلا من خلال وسيط فني يقوم بتعريف التجارب الفنية المرفقة عادة بنصوص للاستدلال على مواقع القوة في كل عمل. هكذا تتحول عروض الفيديو الى مادة شبه افتراضية ناتجة غالباً من بحث ميداني أو مقاربات شخصية عاطفية، او محاولات استرجاع الواقع المفقود من طريق الوهم وإحياء الذاكرة.
يلخص العمل التجهيزي الذي يقدمه اولاف نيكولاي بعنوان «غِيْرو: في مكان ما بوقتٍ متعثر، مشهد الأجنحة المتعاقبة»، الأفكار الرئيسية التي تدور في فلكلها مقاربته البحثية، حول -ايقونية السطح- الذي يعبّر عن جدلية الفضاء كمصدر للحرية والارتقاء والطيران على السواء، وذلك من خلال بث لقطات فيديو على الجدار كانت قد صُوّرت بواسطة بمرنغ طائر، يتلبس فيها معنى السطح ايضاً مسألة الفرار والتحرر والتقهقر والدفاع والعقاب باعتباره مجالاً سياسياً في حين ان المنقلب الآخر لموضوع السطح هو الأرض: الذي يشير الى عالم البشر والطبيعة والموجودات.
اما التجهيز الذي قدمه الثنائي ياسمينة متولي (من مواليد بولونيا- تعيش وتعمل في القاهرة) وفيليب رزق (من مواليد قبرص يعيش ويعمل في القاهرة) تحت عنوان «في الشارع» فهو عبارة عن عرض فيديو، مع أقفاص خشبية ورسوم وصور فوتوغرافية. يركز عملهما على الجانب التوثيقي، وهما يقيمان نمطاً من المسرح الراديكالي من خلال الاعتماد على الخبرات الجماعية وقوة المخيلة. فقد دعا الفنانان مجموعة من العمال والموظفين والمتبطلين الى شرفة سطح احدى عمارات الشقق في وسط القاهرة لإعادة تمثيل ظاهرة الخصخصة في مصنع سرعان ما تعرض للهدم حتى أمسى المكان مهجوراً. هكذا تداخلت ذكريات المصنع المهدوم مع مرويات شخصية تعكس الصراعات الاجتماعية الأوسع في مصر.
وتنشغل سلسلة «المُواطن» التي حققها طوبياس زيلوني بمسألة تمثيل اللاجئين في الإعلام الأوروبي. وتسعى لاستكشاف تَصَوّر اللاجئين عن انفسهم وما تشهده حركة الهجرة من كبت ومآسٍ وقيود، وحقهم في ان يحظوا بالاعتبار كرعايا سياسيين في ألمانيا.
في الفيديو التجهيزي المبهر بتقنياته الرقمية الذي يحمل عنوان «مصنع الشمس» تلجأ هيتو شتايرل الى الإيحاء الراسخ لنور الشمس ذلك الرمز الدهري للتقدم فتقودنا بأسلوب جدلي وعابث في آن واحد، الى صميم السجالات المتعلقة بعالمنا الرقمي الراهن (الكابلات ومادة الفيبر غلاس). يتجلى العمل كلعبة كمبيوتر وهو يشير الى البنية السردية لعالم التسلية الشعبية، التي تتداخل فيها الصور الافتراضية مع رقص أبطال مثل الروبوتات، للإشارة الى شبكات معقدة لا فكاك منها للدفق الرقمي في المعلومات والمصالح الاقتصادية والتشوهات الاجتماعية والثقافية.
يدمج «فبريك» بين الطـــابع الكرنفالي- الضوئي لفن التجهيز وبين الصورة الملتقطة احياناً من هاتف محمول، بلا نزاعات على القيمة النوعية، في اســتراتيجيات المعاصرة القائمة على تداول الأفكار الملهمة او المقّنعة، وكأن وطن الفن الحالي ليس مكاناً بل نظرية ما.



صدى الشام