الرغبة والواقع في مسألة التدخل الأميركي

10 أبريل، 2017

مضر الدبس

يتميز التفكير الرغبوي -عامةً- بطغيان المأمول على الممكن (وعلى المنطقي، والأخلاقي أحيانًا)، وذلك في سيرورة المحاكمة والمنهجية المعتمدة في استشراف المستقبل. وعادةً ما يجد هذا التفكير تربته الخصبة في العقول الأيديولوجية والتقديسية التي تنبنى منطقًا ديماغوجيًا على مستوى الخطاب والتحليل، ويمكن أن يتحول هذا الخطاب إلى قناعة/ وهم، كمن يصنع الصنم بيديه ثم يعبده. ويلجأ هذا النوع من التفكير إلى إقحام الرغبة التي تعتمر النفس، مكان النتيجة التي من المفترض أنها تمر في سياق تحليل منطقي وعقلاني يستند إلى فهمٍ عميق وموضوعي للواقع القائم بمختلف تقاطعاته وتشعباته. يمكن رصد هذا النوع من التفكير بعد الثورة لدى تيارات محسوبة على مشارب سورية مختلفة، وبخاصة اليسار السوري بألوان طيفه المختلفة، والإسلاميين، والقوميين، وحتى عند بعض التيارات المحسوبة على تيار الحداثة (خاصة عندما يتم التعامل مع ماديات الحداثة من دون التعمق في مضمونها). وانعكس هذا التفكير بطبيعة الحال على التشكيلات والتحالفات السياسية التي تشكلت بعد الثورة، إذ إنها ضمت مزيجًا غير مدروس من بعض من هذه التيارات -أو جميعها- كالمجلس الوطني السوري، وهيئة التنسيق، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والهيئة العليا للتفاوض.

يمكن أن يكون الموقف (السريع التصدير غالبًا) من مسألة التدخل الأميركي في سورية مثالًا أنموذجيًا لهذا النمط من التفكير. فمنذ البداية راهن المجلس الوطني في رؤيته للحل على تدخل عسكري أميركي، على غرار ما حصل في ليبيا، على الرغم من أن المسار التحليلي العقلاني والموضوعي والهادئ في التفكير، يفيد بأن لا نية لأميركا بالتدخل العسكري في سورية آنذاك. ولكن يبدو أن التفكير الرغبوي تقدم على التحليل العقلاني، وذلك لأسبابٍ عديدة، منها انسداد الأفق أمام إنعام النظام في الخيار العسكري، ومنها تبني المعارضة منطق التجريب الاستقرائي على حساب التحليل والاستنتاج العقلي. يؤدي المنطق الاستقرائي، بحكم طابعه العام التجريبي، إلى تصدير سيناريوهات وتحديد مواقف من قضايا لا يمكن أن تكون واقعًا، ذلك؛ لأن العقل التجريبي يمكن أن يغرق في متعة التجريب المحض المنفصل عن أي هدف، ويغدو التجريب -في هذه الحالة- هدفًا بحد ذاته؛ فيختار مواد مخبره الداخلي كما يشاء (بالاستناد إلى الرغبة)، بعيدًا عن الواقع والجدوى من التجربة. هكذا كانت إحدى “لاءات” هيئة التنسيق الثلاث: “لا للتدخل الخارجي”، موضع تشديدٍ وتأكيد، في أكثر من موقع، في مناسبة ومن دون مناسبة. في حين تفيد الحقيقة أن التدخل الخارجي (وخصوصًا الأميركي الذي كانت تعنيه الهيئة ضمنيًا آنذاك) لم يكن قابلًا للحدوث، وهذا ما كان من الممكن الوصول إليه بعد تحليل عقلاني. ما قامت به الهيئة آنذاك هو استحضار العراق استقرائيًا، والعيش في وحي فرضية من هذا القبيل، بالطريقة نفسها التي تصرف بها المجلس من وحي التجربة الليبية. وكان منهجا التفكير كلاهما معتكفين في المختبر، يقومان بتجارب واستنتاجات لا تفيد الواقع بشيء، ولا تقدم أي جديد. وكانت الدلائل في الخارج تؤكد أنه ليس هناك نية باتجاه حدوث تدخل عسكري، ومن ثَمّ، يجب عدم الانجرار؛ لتصبح لازمة “التدخل الخارجي” هي الأساس في الخطاب السياسي، ومن ثم؛ التركيز على التفكير في أوهام.

في الحقيقة استفز هذه الذاكرة اليوم تصريحٌ للمعارضة، صدر بُعيد الضربة الأميركية لمطار الشعيرات، يقول: “نأمل استمرار الضربات لمنع النظام من استخدام طائراته في شن أي غارات جديدة، أو العودة لاستخدام أسلحة محرمة دوليَا (…) وأن تكون هذه الضربة بداية”. إذ يمكن أن نقرأ في هذا الموقف أن الرغبة مرة أخرى قد طغت على العقلانية في هذا التصريح؛ فاحتمال أن تكون الضربة قد جرت بالتسيق وبموافقة روسيا مازال قائمًا، بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك، ففي ضوء شبهات بتورط روسيا في الانتخابات الأميركية، وحضور هذا الملف القوي في الولايات المتحدة اليوم، يمكن أن نضع احتمال أن الإدارة الأميركية تستثمر داخليًا في شن هذه الضربة، وفي مستوى عالٍ من التنسيق مع الروس.  ويبدو اليوم أن سيناريوهات كثيرة تندرج تحت نمط التفكير نفسه؛ لذلك، ربما يكون من المُجدي إجراء تقييم عقلي، واستنتاج الجدوى من كل تصريح أو سلوك أو أداء في لحظة معينة.

وهذا لا ينفي -بالطبع- الواجب الأخلاقي الذي يقع على عاتق الإنسانية عمومًا، و”العالم المتحضر” خصوصًا، في حماية الشعب السوري من آلة القتل والإجرام الهمجية التي يواجهها يوميًا. ولا ينفي حقيقة أن هذا النظام المتمادي في إجرامه هو السبب الرئيس، والمسؤول الأول والأخير، عن جرح البلد المفتوح، المُعرَّض لكل أنواع الأخماج، ولتجار الدماء جميعهم.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]