الشاعر عارف حمزة، ورطة الشعر المستمرة

10 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017
9 minutes

بشرى البشوات

وأنا أنظر إلى الشعر بوصفه شهقة طفل صغير، يريد إطفاء الحرائق التي شبّت في العالم، من العالم الذاتي إلى الموضوعي، من الفردي إلى الجماعي، من الأنا إلى الآخر، وفي المآل، عالم البشرية قاطبة.

أنظر في للحظة ذاتها إلى تجربة شاعر سوري، يقف على تقاطع ثقافتين: العربية والكردية، بعين السائل الباحث عن إجابات أخذها من الشعر مباشرة، ومن حضوره المميز في ساحة، بدا للوهلة الأولى أنها بازار كبير، لكنها في ما يخصه حانوت صغير يُعنى بالثمين، وكأني أدخل مدينة في أقصى الشمال السوري من خلال قصائده ومجموعة دواوينه.

أقول له: الكتابة ورطة، فكيف تصف ورطتك المستمرة منذ أكثر من 17عامًا، مذ نشرت ديوانك الأول، “ديوان حياة مكشوفة للقنص”2000؟ فيقول عارف حمزة:

“مضى هذا الزمن الطويل، وما عاد من الممكن تسويغ أشياء -كهذه- تتعلق بالحياة الشخصية الغامضة لأحدنا. ما يشغلني بدلًا من ذلك هو قدرة تلك النصوص على متابعة إيلام أحد ما على هذه الأرض. مرّات كثيرة أتعمّد قراءة نصوص قديمة لي في الأمسيات. أراقب تأثيرها في المتلقي. أرى نصّي البسيط يحاول العيش من جديد، وتمرير كميّات الألم التي لا أعرف كيف تستمرّ هكذا في طزاجتها. ربّما قدرتها على هذا الإيلام يُعطي نصوصي مسوغًا ما للعيش.

لم تكن قصة حب يقع أحدنا في حفرتها. أو خيبة أمل من حبيبة مرتجلة. كان كتابي الأول “حياة مكشوفة للقنص” عن الحرب. وهكذا تستمر الحروب مدّة أطول مما نظنّ، وتعطي أملًا غامضًا في متابعة الكتابة؛ بحثًا عن حياة شخصيّة لينة وخفيفة، ما عدت قادرًا على استعادتها.”

يقيم عارف حاليًا في ألمانية منذ ثلاث سنوات تقريبًا. سألته عن سورية. سورية التي تعنيه، ويكتب أغلب نصوصه، وهو يصطف إلى جانب مستضعفيّها، كيف يراها بعيدًا عن الكلام المكرر؟

“لم استخدم ولا مرّة واحدة كلمة “سورية” في نصوصي. اكتفيت بما كتبه رياض الصالح الحسين على سبيل المثال. العاطفة الثقيلة على الشعر جعلتني في نصوصي الأخيرة أذكر مفردات مثل سورية، السوريين. تحديد الأماكن وهوية الأشخاص مشكلة بالنسبة إلي في كتابة الشعر، تجعل الشعر مُحاصرًا في شيء اسمه التأليف البدائي. لا يمكن اللعب فيه بالتحرر من تلك الواقعيّة الفجّة، والصدق الفج. قبل الحرب كنّا نشعر بسوريّة أكثر ربّما. إنها مثلنا مهجورة وعانس وأرملة. خلال الحرب بدت مثل أم أخذناها مبكرًا إلى المقبرة، كي لا ندفع فواتير إقامتها في دار العجزة. في المنفى لم أكن أظن بأن ذكر كلمة مثل سورية، أو وصف مثل سوريّ، قادرة على ملء عينيّ بسهولة بالدموع.”

ترد المرأة كثيرًا في نصوصه، فهي المهجورة، والعانس والأرملة والأم المريضة…

في صورها التي ذكرها، كيف يمكن للشاعر أن يعرف دواخل تلك المرأة؟

“القرويات، الفقيرات، المريضات من دون عناية أحد، الأمهات المضروبات من أبناء تظل تمدحهم أمام الغرباء، العانس في وحدتها وهجرانها الطويل وشهوتها… كنتُ أتعذب من قصصهن التي يروينها تفصيليًا. وعند أكثر اللحظات إيلامًا لهن، كنّ يسترسلن. تعلمتُ على يد الألم ذاك. لا يمكن تغيير واقعهن بالشعر، ولن يقرأن نصوصي في يوم ما، ولكن لا يمكن نسيانهن أيضًا.

في داخل كل واحد منا جزء ذكوريّ وجزء أنثوي. هناك أشخاص تخلوا عن أحد الجزأين، وربما عن كليهما، ببساطة. كنت أفكر كرجل في النصوص الأنثويّة، وكأنثى في الأخرى. ما حصلتُ عليه في النهاية هو الألم الذي تصنعه رقة لا يمكن تحمّلها ببساطة.”

مع كل هذا التشظي والوجع والدماء، ماذا عن الشعر؟ هل ينتصر الشعر على هذا الخراب؟ أسأل عارف، فيقول:

“الشعر هو -أيضًا- أحد مصادر البهجة أو الفرجة، لا يقل عن باقي الفنون الأخرى، حوّلته الحروب والخراب إلى مصدر للألم، أخرجته من البارات والحب والاستدراج إلى أماكن أخرى لم يألفها؛ فصار لدينا شعر جديد على هذه الأرض الخراب.

كان الشعر سلاحًا في ما مضى، سواء في الحب أم في الحرب. ولكن حتى القصائد “العموديّة” الآن، لن تستطيع أن تفت رقبة السياسييّن الذين يحكمهم دكتاتور كبير هو المال.

الذي يمكن أن يحارب الخراب هو أخذُ هؤلاء السياسيين الذين يحكمون العالم، إلى مصحّات نفسيّة، في الأقل، قبل أن يُصبح كل البشر مثلهم.

الكتّاب أقليّة على هذه الأرض على أيّ حال.”

لا يشعر عارف بالنفي، أو يعيش حال الصراع بين بلاد عاش فيها، وبلاد لجأ إليها، لا يسمي نفسه لاجئًا في بلاد اختارها طواعية، ومنحته حتى اللحظة الجزء الذي فقده في بلاده. وقد شارك في أمسيات شعرية كثيرة في ألمانيا، ومنها أخيرًا الأمسية التي نظمتها اليونسكو في يوم الشعر العالمي في برلين، ونشرت الصحافة الثقافية هناك مقالته الأولى بالألمانية. فماذا يعني له ذلك؟

“أشعر بالحرج كلما دُعيت إلى أمسية؛ لأنه في ألمانيا يسألونك عادة أسئلة شخصية. وأنا أشعر بالملل من الحديث عن نفسي أو عن شعري. ولكن عادة ما التقي بأصدقاء وأناس عزيزين على قلبي. لستُ لاجئًا هنا ولا منفيًّا. كنتُ منفيًّا خلال وجودي في بلدي. أتابع حياتي كاتبًا يحبّ العزلة، ولا يعرف طريقة أخرى للعيش غير الكتابة.

هي أمور مهمة بالطبع. خانتنا الترجمات التي وصلتنا من الألمانيّة؛ فهناك شعر جديد جيد هنا. هناك مجايلون لنا يُفكرون بطريقة قريبة إلينا.

الفرص في ألمانيا كبيرة وتسويقية لدرجة تجعلني لا أندم إذا توقفت عن الكتابة!”

الشعر فن صامت، لكن الرواية قرار، متى أخذته لا تستطيع التوقف عنه. أقول لعارف حمزة: أقرأ لك مرات بعض النصوص النثرية الطويلة نسبيًا، ويمكن تصنيفها على أنها قصة قصيرة، تروي من خلالها حدثًا معينًا. هل من الممكن أن تنتقل يومًا إلى كتابة الرواية مثلًا؟

“أنا مخلص جدًا لقراءة الرواية وكتابة الشعر، أبحث عن الشعر الجيّد كقارئ في الروايات. ولكن أحبّ لو أني أكتب رواية في يوم ما. لأنني كنتُ أرغب في أن أكون روائيًّا منذ البداية. وعندما سألتني إحدى الصحافيّات عن سبب الألم في شعري، أجبتها بأنّه ربّما يعود السبب في ذلك إلى أنني لم أصبح روائيًا!”

وختامًا، لنقرأ معًا بعضًا من شعر عارف حمزة:

نصف قمر

نصف قمر يسطع الآن فوق مدنٍ

لم يبقَ فيها أحد.

نصف قمر يؤلمني

كانشطار وجهكِ بفأس.

تحت هذا النصف من القمر الضعيف

حملنا أولادَنا إلى الأسرّة

بينما حملهم الآخرون

إلى القبور!!.

ملوك الجهات الأربع

أيتـّها الجدّة

لقد انتهينا للتـّو

أبناؤك الأربعة

الذين جعلتهم ملوكَ الجهات الأربع

لقد انتهينا

من دفنِهم للتـّو.

لست وحيدًا

الأمُّ ماتت.

الزوجة والأولاد.

السقفُ يستلقي على الأرضيّة

منتفخًا في بعض الأماكن

بسبب أصص الورد

والنظرات الأخيرة.

منذ يومين

وأنت تعيش

مع ألم الأسنان

ما عدتَ وحيدًا إذن.

أمنية

 

في الباص

في الطريق إلى بيتكِ

وأنت تنظرين إلى شجرة محترقة. إلى جثة.

عندما يرتجُّ جسدكِ بسبب حصاة صغيرة

أو كبيرة،

في الطريق إلى بيتك

وأنتِ تتأمّلين يدًا مقطوعة

أتمنّى

لو كنتُ

مكانها.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]