الفيديو الرقمي يكتسح المعرفة «الشعبية» 19 في المئة للقراءة و14 في المئة للتلفزيون
10 أبريل، 2017
منذ القرن الثامن عشر، عندما تنامت المطالبة بالحرية والمساواة، بدأ مفهوم المعرفة يتحوّل شأناً عاماً وحقّاً من حقوق الإنسان، متحرّراً رويداً رويداً من الخطاب الموجّه من الشمال إلى الجنوب، بفضل تنامي تكنولوجيا الاتصالات وصولاً إلى ثورتها الرقمية التي وسّعت دائرة الوسائط المعرفية وبسّطت وسائل نقلها والوصول الجماهيري إليها. فبفضل الثورة الرقمية أصبح نقل المعرفة وتداولها ينتشران في حلقة دائرية تفاعلية غير طبقية وغير عنصرية. فما هي الوسيلة أو الوسيط الذي يستقصي منه الناس المعرفة العامة اليوم؟ بعدما أصبح مفهوم المعرفة المتدفّقة كالمياه الجارية، صناعة ترتكز على منطق السوق والتسويق وتخضع لعملية العرض والطلب، وترتبط بالمجتمع الرقمي والعالم الافتراضي، وبعدما قلبت الثورة الرقمية معايير الوسائط الإعلامية والمعرفية وأصبحت هواتفنا الذكية هي مفكراتنا ونشرة أخبارنا المباشرة على مدار الساعة، وكتبنا المدرسية والجامعية، ومكتبتنا الأدبية والبحثية، ومصدر تسليتنا ومعلوماتنا ووسيلتنا الاجتماعية والتفاعلية الأولى.
«الحياة» سألت عيّنة عشوائية في بيروت تحديداً، من مئة شخص (نساء ورجال) بين الثامنة عشرة والستين سنة من عمرهم أنهى جميعهم مرحلة الدراسة الثانوية، وشطر كبير منهم يتابع تعليماً جامعياً، من خلال سؤال: «ما هو الوسيط الذي تغرف منه معرفتك الإخبارية والمعلوماتية والثقافية؟» وحدّدت الاستمارة 13 وسيطاً بين السينما، المسرح، المحاضرات، المتاحف، الصحف والمجلات الورقية، وصولاً إلى التلفزيون التقليدي، الفيديو الرقمي، وسائل التواصل الاجتماعي، التطبيقات والمواقع الرقمية (تشمل أفلام السينما والمسلسلات والتلفزيون الرقمي)، الكتب الإلكترونية، الراديو، مواقع وتطبيقات الأخبار والصحف (Newswebsites)… ليتبيّن أن التلفزيون الذي كان ملك الوسائط المعرفية والإعلامية في القرن العشرين، لم يعد وسيطاً فعالاً للتأثير ونقل المعرفة، واقتصر تأثيره على نسبة لا تتعدى الـ14 في المئة من مجمل العينة هذه.
وسيط «اشتراكي» بطله الهاتف الذكي
حلّت اللغة البصرية في المرتبة الأولى من خلال أشرطة الفيديو الرقمية المتناقلة عبر الهواتف الذكية خصوصاً، والمنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الثقافية والاقتصادية والسياسية والتربوية الرقمية المتخصّصة أيضاً، وعبر القنوات التلفزيونية التقليدية، وذلك بنسبة 60 في المئة من عدد الأشخاص المستجوبين. فالفيديو الرقمي وخصوصاً الشخصي، بات موجوداً على مواقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك، سنابتشات، بيريسكوب، إنستاغرام)، وعلى يوتيوب، وعلى المواقع الإلكترونية المتخصصة، ومحركات البحث، وعلى مواقع الصحف والتلفزيونات والمجلات والمؤسسات. وهو بات، ليس وسيطاً معرفياً أو إعلامياً فحسب، بل وسيط تسويقي يأتي أيضاً في المرتبة الأولى من أي خطة تسويقية اليوم، لأنه سهل الانتشار ولا يحتاج إلى تمويل باهظ ويكاد يكون مجانياً في غالبية الأوقات، كما أنه لا يستغرق وقتاً طويلاً في إنتاجه. هو وسيلة تتمتع بصدقية كبيرة، ولغتها البصرية سهلة تحتاج فقط إلى عين مجردة. ويمكن لأي منا تصوير فيديو وبثه ويمكن لأي كان مشاهدته مجاناً. إذن هو وسيلة ديموقراطية وشعبية ومجانية في غالبية الحالات، بل يجوز وصفه بالوسيلة «الاشتراكية». والأهم أن الغالبية الساحقة من العيّنة، أكدت أنها تتابع هذه الوسائل عبر الهاتف الذكي المحمول.
سطوة الفيديو الرقمي هذه، قد تُفسّر لماذا يضخّ المستثمرون في عالم المعرفة والمعلنون في العالم العربي، المزيد من الأموال في أفلام الفيديو الاجتماعية والثقافية والتربوية، والإعلامية طبعاً، كما تفعل منصة «AJPLUS» الرائدة في بثّ الفيديو الرقمي الصحافي والتوثيقي والاستقصائي، والذي ذكر 50 في المئة من العينة أنهم يتابعونه في شكل دائم. وينسجم الإحصاء مع إحصاءات لمؤسسة «زينيث أوبتيميديا» التي تفيد بأن الوقت اليوميّ الذي يقضيه الناس في مشاهدة الفيديو الرقمي ارتفع إلى 19.8 في المئة عام 2016، في حين تزيد مشاهدة الفيديو عبر الهاتف المحمول بنحو خمسة أضعاف معدل الأجهزة غير المحمولة، والتي تضمّ أكثر من نصف مشاهدة الفيديو عبر الإنترنت.
ومهما علت مكانة اللغة البصرية، تبقى للقراءة متعة تصل إلى 19 في المئة تتوزّع بين الكتاب الورقي والإلكتروني والصحف الإلكترونية والتطبيقات التي تعرض مقالات متنوّعة المجالات، والأخبار العاجلة، مع الأخذ في الاعتبار أن 90 في المئة ممن وضعوا إشارة في خانة القراءة يتكلمون لغة أجنبية واحدة على الأقل إضافة إلى العربية. بغض النظر عما تتضمن أفلام الفيديو الرقمية من قيمة معرفية وثقافية مهمة، أو من دقة في المعلومات والأرقام، إلا أنها هي الأولى بالنسبة إلى غالبية من استطلعنا رأيهم. وهذا كان مفاجئاً. لكن المفاجأة الكبرى أتت عندما جمعنا حصيلة المراحل الثلاث التي مرّ بها الاستطلاع، وتبيّن أن من قابلناهم يقرأون كثيراً بالنسبة إلى الدراسات القديمة التي لطالما اشتكت من عدمية القراءة عند العرب. ففي تقرير التنمية الثقافية لعام 2011 الصادر عن مؤسسة الفكر العربي، جاء أن العربي يقرأ بمعدّل ستّ دقائق سنوياً، بينما يقرأ الأوروبي بمعدّل 200 ساعة سنوياً. وهنا جمعنا في نتائجنا كل ما يُقرأ بين الورقي والإلكتروني، لتأتي القراءة في المرتبة الثانية! إلا أنه يمكننا القول من خلال مقابلاتنا لهؤلاء المئة شخص، أن ما يُقرأ من خلال «تويتر» و «فايسبوك» (نشر روابط إلكترونية لمقالات تثير الحماسة إلى قراءتها) والمواقع الإخبارية وتطبيقات الكتب الإلكترونية، ليس بقليل، وهو يحتاج إلى بحث جديّ اليوم. فهل العالم الرقمي والهواتف الذكية، ساهما في ثورة على مستوى القراءة في العالم العربي؟ وهل تشكّل هذه المواقع نوعاً من الإصلاح على المستوى الثقافي؟ نترك الإجابة للأكاديميين والباحثين.
التحرّر من مركزية صالات السينما
في الاستطلاع بقي للسينما بشكلها التقليدي نسبة 5 في المئة، إذ أكد غالبية المستطلَعين (أكثرهم من طلاب الجامعات) أنهم يشاهدون الأفلام عبر مواقع إلكترونية متخصصة مثل «نيتفليكس»، وليس في الصالات. فالسينما عبر الإنترنت، احتلت المرتبة الخامسة في استطلاعنا، لتسبق التلفزيون والراديو على الشبكة العنكبوتية. وغالبية من سألناهم كيف تتابعون الأفلام السينمائية، ذكروا «نيتفليكس» التي هي شركة إنتاج وبث سينمائية رقمية، ويبلغ عدد مشتركي البث فيها 93 مليوناً في 190 بلداً. وتعمد إلى استمالة كبار موظفي الاستوديوات المتفرقة برواتب كبيرة، وتحرص على تغذية لوائح فهارسها بمواد الستريمينغ الجذابة من الأصناف كلها: المسلسلات والأشرطة الوثائقية والروائية. وتبلغ موازنة موقع «نيتفليكس» في 2017، 6 بلايين دولار. ويقضي نموذج «نيتفليكس»، بحسب مقال لديدييه بيرون في صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية، «بالتحرر من مركزية صالة العرض ورجحانها على التوزيع والمشاهدة، وتحتسب رغبة الجمهور الملحة في استعجال المشاهدة وإقباله على الإنتاج الجديد بصبر نافد». وعلى هذا، «تسعى الشبكة في تحرير سياسة عروضها ومشاهدة منتجاتها من تحكم الموزعين وأصحاب الصالات ومبرمجي شاشات التلفزيون، وهو أمر مكلف جداً»، كما أتى في المقال. و «يفحص أقطاب البث الرقمي، مثل «آبل» و «فيميو»، المنافسة في هذا المضمار، الإنتاج والتوزيع والتسويق»، كما كتب بيرون. و «لا شك أن سوق الفيديو العالمية تتسع، على قول مدير «آمازون ستوديوز» لـ «هوليوود ريبورتر»، لأكثر من منافسين. ولا يدري المراقب بعد هل تمهد هذه السياسة لازدهار سينمائي واعد أم أنها نذير شؤم يكنس في طريقه الاستثناء الثقافي، ويقضي على الإنتاج المستقل. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أننا لاحظنا فجوة بين الشباب دون الخمسين وبين من هم فوق هذا العمر، بالنسبة إلى استخدام الإنترنت ووسائطه، خصوصاً على صعيد التطبيقات الرقمية التي تعرض الأفلام والكتب»، بحسب ما كتب بيرون.
للمسرح تبقى نسبة لا تتعدى الواحد في المئة (0.9 في المئة)، بحسب العيّنة. أما المحاضرات والندوات فتوازت نسب متابعيها مع متابعي المعارض الفنية بنسبة 0.5 في المئة. وكذلك المحاضرات التي تنقل عبر الفيديو المباشر الذي بدأ يتربّع على عرش الوسيلة الأساسية للناس لتلبية حاجاتهم من المعلومات والترفيه والإعلان.
في البدء سألت «الحياة» كل شخص في العيّنة العشوائية عما هو الوسيط الأكثر تداولاً في حياته اليومية، فأجاب 60 في المئة: الفيديو. ثم طلبنا أن يرتّب كل واحد منهم من واحد إلى عشرة، الوسيط التقليدي الأكثر تداولاً يومياً، فأتت الإنترنت في المرتبة الأولى، إذ بات يعتبرها الصغار والكبار وسيلة تقليدية! بعدها أتى التلفزيون التقليدي في المرتبة الثانية، المجلات الورقية في الثالثة، السينما في الرابعة، الصحف الورقية في الخامسة، الراديو (المتابعة تقتصر على سماع الراديو في السيارة أو عبر الإنترنت) في السادسة، الكتب في السابعة، المسرح في الثامنة، المحاضرات والندوات في التاسعة، والمتاحف والمعارض في المرتبة العاشرة والأخيرة. لكن عندما انتقلنا إلى تحديد السؤال حول ما هي الوسيلة الأكثر تداولاً على الإنترنت فقط، من أجل المعرفة الثقافية والمعلوماتية، تربّع الفيديو الرقمي في المرتبة الأولى، تلته مواقع التواصل الاجتماعي، ثم الصحف والمجلات والأخبار العاجلة في المرتبة الثالثة، ثم المواقع الإلكترونية العامة ومحركات البحث في المرتبة الرابعة، وفي المرتبة الخامسة أتت أفلام السينما والمسلسلات الموجودة على شبكات رقمية متخصصة مثل «نيتفليكس»، ثم التلفزيون في المرتبة السادسة، والراديو في المرتبة السابعة. وأتت المتاحف الافتراضية، في المرتبة الأخيرة.
قطيعة مع الأفكار لمصلحة الخبر السريع
يرى الإعلامي إبراهيم حيدر الذي انتهى أخيراً من إنجاز أطروحة في الفلسفة بعنوان «الفكر النقدي العربي المعاصر في كتابات صحافية (المنطلقات ونماذج ونصوص للبحث)، أنه «ليس مستغرباً أن تتقدم وسائل التواصل الاجتماعي على غيرها من وسائل الإعلام كوسائط معرفية أولى، على ما تشهده من استقطاب لجميع الفئات من الناس. صار «فايسبوك» و «تويتر» أداتين ترويجيتين لكتّاب مشهورين، كما للأقلام الشبابية والهواة وفئات مختلفة من المجتمع».
ويقول: «هذا يدل على أن تغيرات شهدتها المجتمعات بعد الثورة الرقمية غيّرت كثيراً في الوعي وتراكم المعرفة، وقبل ذلك متابعة الخبر والتواصل مع كل جديد في العالم. فإذا كان الفيديو هو الوسيط الأول في المعرفة والأخبار، وفق الاستطلاع، فذلك يعني أن هناك نوعاً من القطيعة مع الأفكار لمصلحة الخبر السريع والصورة ووتيرة الـ scan التي يستطيع الشخص من خلالها التحكم يما يريد أن يشاهده أو يقرأه أو يحذفه حتى من ذاكرته».
ويفيد بأنه «لا مجال للحديث هنا عن فلسفة لهذا الانتقال المفاجئ والسريع نحو وسائط معرفية جديدة، إذ إن وسائل التواصل الاجتماعي تتجه لتقتحم المستقبل بالسيطرة الكاملة على وسائل الإعلام، وهي اليوم ترفع من شأن هذه الوسيلة أو تلك، خصوصاً المواقع الإلكترونية الإخبارية. وبقدر ما يسيطر هذا التطور على البشرية، إلا أنه لا يولد أفكاراً في المعرفة، إذا كانت الفلسفة تبدأ عندما يتم توليد فعل التفكير في الفكر، وهي طرح لمشكلات يطرحها العقل بالذات، لذا لا يمكن أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة الوسائط مكاناً لبناء العقل، وإن كانت مجالاً للتواصل المعرفي في الحياة اليومية».
ويحلّل حيدر قائلاً: «التطور التكنولوجي الذي نشهده وانتقال غالبية الناس في عالمنا العربي إلى متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، لا يعنيان حداثة عربية ولا انتقالاً بين التنوير وما بعد الحداثة، تماماً كما تسيطر الأصوليات اليوم وتحل مكان الفلسفة والوعي النقدي وممارسة التفكير ومواكبة قيم الحداثة والحرية والحقوق والديموقراطية، وتماماً كما تسيطر الغيبيات على مجتمعاتنا وتمنع أي إمكان للتغيير». ويضيف: «سيطرة وسائط معرفية جديدة تبقى أدوات لتواصل من خارج البناء المعرفي، إذا اعتبرنا أن التطور يمثل عقلانية تواصلية تؤدي إلى زيادة العقلنة الاجتماعية في مجال الأخلاق والقانون وإلى ظهور تنظيمات ديموقراطية وفق هابرماس، وهو يستحيل تخلفاً في عالمنا، طالما أن هناك قوى مناوئة للحداثة وضد العقلانية».
[sociallocker] صدى الشام[/sociallocker]