هروب أطفال سورية والعراق… لن ينتهي!


من داخل سجن كبير في مدينة يونانية نسمع أصوات مراهقين يستغيثون ويطلبون المساعدة من أمهاتهم للخروج منه. تُصب اللعنات على الساعة التعيسة التي أوصلتهم إليه. ثم وبعد مرور لحظات قليلة يحل صمت مطبق على المكان الكئيب… بهذا المشهد الاستهلالي يدخل الوثائقي التلفزيوني اليوناني إلى عالم المهاجرين الصغار، القابعين في زنزانات في انتظار لحظة الفرج والتحرر من أسر لا يعرفون بالضبط لماذا هم فيه ولماذا طالت محاكمتهم سنوات على جرائم لم يرتكبوها؟ يأخذ الوثائقي علي جاسم (عراقي من الموصل) والصالح محمد (سوري من كوباني) عينتين لمئات المراهقين مثلهما وجدوا أنفسهم وبسبب التباسات رحلات الهروب ونذالات المهربين «متهمين» بنظر القانون مع أن «جريمتهم» الوحيدة كانت البحث عن خلاص من عذاب الأوطان لا أكثر.

أسباب هروبهما وحدهما على رغم صغر سنهما ومجابهتهما مصيراً مجهولاً، يتعرف إليها المشاهد من خلال مكالماتهما مع أهاليهما. فأم السوري تحكي له كيف قتل «داعش» في غيابه أقرب أصدقائه وقطع رؤوس جيرانه وأحال الحياة في كوباني جحيماً لا يطاق، والعراقي يسمع شكوى والدته من ضيق اليد وكل أملها بالخلاص من جحيم المعارك والصراعات العرقية معقود عليه وعلى حصوله على لجوء في بلد ما. لم يحك لها الحقيقة كونه مسجوناً منذ أكثر من سنة ونصف السنة وربما يقضي في السجن بقية حياته إذا أدين بتهمة «تهريب البشر» التي وجهتها إليه الشرطة اليونانية خلال محاولته الوصول إلى أراضيها. لم يبح لها بالحقيقة لعلمه بحجم الصدمة التي ستصيبها وربما بسببها ستفقد حياتها. بين الصبيين نشأت علاقة صداقة، فتراهما طيلة الوقت سوية يتبادلان الهموم والقلق عما ستؤول إليه محاكمتهما، التي لم يحدد موعد لها. طول الانتظار يزيد من توترهما ويرفع من شدة سؤال أهاليهما عن سبب مكوثهما في بلد كان من المفترض أن يكون معبراً إلى وجهة نهاية ربما فيها تحل كل مشاكلهما ومتاعبهما. سلوكهما السوي وهدوؤهما في السجن ساعداهما على كسب تعاطف الحراس وموظفي الشؤون الاجتماعية معهما، ما خفف عندهما حدة الشعور بالقهر. هما ليسا بمهربين، لكن الظروف التي وجدوا أنفسهم فيها عقدت عليهما إمكان التوضيح في التحقيقات.

بعد مرور أكثر من عام في السجن وتعلمهما بعض اليونانية تمكنا من إقناع محاميهما ببراءتهما ما ساعد على تقريب موعد محاكمتهما. طول الانتظار غير المبرر وانعكاساته النفسية على الأطفال نجد تعابيره في قصص جانبية لمراهقين آخرين معهم في السجن توضح بجلاء مدى الظلم الواقع عليهم من كل الأطراف. يقترب الوثائقي «هروب لن ينتهي» المعروض على التلفزيون السويدي، من مشكلات عامة لها صلة باللاجئين الصغار ومنها طرق تحديد أعمارهم، فعليها يتوقف مصيرهم. وعلى رغم أن علي ومحمد كانا في عمر الطفولة حين وصلا إلى الأراضي اليونانية فإن الشرطة سجلتهما كراشدين من دون مراعاة الفترة الزمنية التي قضياها داخل البلاد، وعليه فقد تصل محكوميتهما في حالة الإدانة إلى أكثر من عشرين سنة.

مشكلة أخرى يعاني منها السجناء الأحداث؛ فغالبيتهم ضيَّعوا جوازات سفرهم الأصلية وأوراق ثبوتهم، وفي الحال العراقية والسورية يستحيل الحصول على بديل لها، لهذا يطول انتظارهم ويشتد عذابهم. قصص الصبية مقنعة لمن يعرف ظروف التهريب اللاشرعي وكيف يستغل المهربون ضحاياهم ويورطونهم، لكنها بالنسبة إلى المحاكم مجرد تبرير لغرض إخفاء الحقيقة.

رحلة إقناع المحكمة بصدق أقوالهما تطلبت «معجزات»، تحققت بفعل صدقهما لا مهارة محاميهما. حصلا على البراءة بشروط؛ إثبات وجودهم يومياً عند أحد مراكز الشرطة وعدم السماح لهما بمغادرة البلاد بطرق غير شرعية إلى جانب رفض دائرة الهجرة منحهما إقامة رسمية يستطيعون الحصول من خلالها على فرص عمل. بمعنى آخر قررت السلطات رميهما في الشارع، من دون أوراق ثبوتية ولا مال، فخروجهما من السجن عملياً لن ينهِ دورة هروبهما بل أدخلهما في دوامة جديدة من البحث عن طرق توصلهما إلى وجهات، حلموا بالوصول إليها، فاليونان بالنسبة إليهما حلقة وصل ليس أكثر والسلطات اليونانية تعرف ذلك جيداً ومع هذا تمانع خروجهما ولا تمنحهما حق اللجوء على أراضيها.

يترك الوثائقي لكاميرته تصوير حياة العراقي وحيداً في شوارع العاصمة في انتظار المجهول فيما السوري ولمعرفته الجيدة باللغة اليونانية يحصل على تصريح عمل لستة أشهر، لا يسمح له خلالها ولا بعدها بمغادرة البلاد، أي أن عليه المكوث في شكل غير شرعي، حاله حال آلاف المهاجرين الصغار؛ ظلوا هناك هائمين على وجوههم، هاربين في دورة أبدية!



صدى الشام