سورية ميدان لتشظي الحضارات


محمد الشوا

بهذه العبارة العميقة والخطِرة في دلالاتها وانعكاساتها الجغرافية والسياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية والإستراتيجية، يصف فيلسوف التاريخ في القرن العشرين، والمؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي (من 1889 إلى 1975)، سورية، فموقعها بين بلاد ما بين النهرين شرقًا، وبلاد الأناضول شمالًا، ومصر والجزيرة العربية جنوبًا، جعلها عرضة للتنافس بين القوى التي كانت تنشأ في هذه النطاقات الجيو – استراتيجية، ولقد سعت كل الإمبراطوريات التي قامت في هذه المنطقة، من خلال الصراع فيما بينها، للسيطرة على سورية، فمنذ الألف الثاني قبل الميلاد، كان مُقدّرًا لسورية أن تصبح نقطة تقاطع طرق التجارة الدولية الآتية من الهند عبر الخليج العربي، مرورًا ببلاد ما بين النهرين، فشمالي سورية، في طريقها إلى سواحل المتوسط، وتلك الآتية من اليمن تمر عبر الحجاز إلى دمشق فحلب، ومنها إلى بلاد الأناضول.

لقد تمزق وتشظّى كثير من الحضارات والإمبراطوريات في منطقة الشرق الأدنى والعالم القديم، وكانت سورية في قلب هذا العالم؛ لذا، سعت كل القوى للسيطرة عليها، ابتداء من السومريين، فالأكاديين الكنعانيين، فالفينيقيين والأشوريين، والحثيين، والآراميين، والكلدانيين، والأنباط، والغساسنة العرب، ثم اليونان والرومان، مرورًا بالإمبراطورية الفارسية التي كانت أول قوة عظمى تتمحور قوتها على الأنهر، واستطاعت السيطرة على بلاد ما بين النهرين وسورية والأناضول ومصر. حتى جاء العرب المسلمون، وسيطروا خلال مئة عام على منطقة ممتدة من ضفاف الأطلسي غربًا، إلى حدود الصين شرقًا، وطوال قرن من الزمن تحولت سورية إلى مركز العالم، وأصبحت دمشق عاصمة نظام عالمي مترامي الأطراف.

يؤكد د. إدمون ملحم -في مقالة عن سورية- أن أهميتها الطبيعية، أو ما يُعرف بالهلال الخصيب، كما أطلق عليه المستشرق وعالم الآثار الأميركي، جيمس هنري بريستد عام 1906، تكمن في موقعها الجيو – استراتيجي الذي يُشكّل عقدة اتصال العالم القديم بالحديث، ومفترقًا للطرق التجارية، واصلًا الشرق بالغرب، وسورية المتميزة بوحدتها الجغرافية – الزراعية – الاقتصادية تمتاز -أيضًا- بموقعها الاستراتيجي الذي تطل منه على أهم البحار، ويُشكّل نقطة الالتقاء والربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا. هذا الموقع الذي يُمثّل بموارده الطبيعية خزانًا غذائيًا ممتازًا، تُحاول إمبراطوريات اليوم، أي دول الاستعمار الحديث، السيطرة عليه ونهب ثرواته، مثلما حاولت الإمبراطوريات القديمة، كالفارسية والرومانية والمقدونية – اليونانية، وغيرها، السيطرة عليه؛ لحماية طرق الموصلات ولتحقيق هيمنتها، وضمان أمنها الاقتصادي والعسكري.

حقيقة الصراع على سورية أنه صراع المصالح الكبرى، بكل أبعادها الدولية، صراع على النفوذ والمصالح الاقتصادية ومصادر الطاقة وطرق إمدادها، وبحسب الصحافي الأميركي المخضرم، ريز إرليخ، في كتابه (داخل سورية)، لا توجد معادن ذات أهمية استراتيجية في سورية، كما أن إنتاجها للنفط ضئيل نسبيًا، ولا توجد فيها أي موانئ أو قواعد عسكرية مهمة، ولكن يوجد فيها شيء يحسدها عليه أي سمسار عقارات؛ إنه الموقع، فلسورية حدود مع تركيا والعراق ولبنان وإسرائيل والأردن.

كذلك في البعد الجيو – اقتصادي، لعب موقع سورية دورًا في مخططات بناء خط جديد لأنابيب الغاز الطبيعي؛ فقد رغبت قطر في بناء خط أنابيب من حقول الغاز فيها، يمتد عبر السعودية والأردن وسورية؛ حتى ينتهي في تركيا، وكان هذا الخط سيقدم لأوروبا مصدرًا جديدًا للطاقة، ينافس صادرات الغاز من روسيا.

إذن؛ لكل هذه الأهمية التي تتمتع بها دولة مثل سورية، في كونها منطقة وميدانًا للصراع الحضاري للقوى العظمى في العالم، والتسابق للسيطرة عليها، وبمسلمة تاريخية مفادها أن من يسيطر على الشرق الأوسط، يسيطر على العالم، وسورية في قلب الشرق الأوسط، فالسيطرة على سورية الطبيعية مفتاح سيطرة أي دولة إمبراطورية على العالم بأسره، وفي رأي د. إدمون ملحم، في المقالة نفسها، أن الدولة الإمبراطورية عندما تفقد سيطرتها على الهلال الخصيب الذي يقع في منتصف العالم، ويُشكّل ممرًا مهمًا لعمليات التجارة الدولية، ولحركة الاقتصاد العالمي، تفقد هذه الإمبراطورية سيطرتها العالمية، وتصبح دولة عادية.

عندما انطلقت ثورات الربيع العربي، خاصة الثورة السورية، وما أحدثته من تداعيات خطرة وكبيرة في المنطقة، في المستوى المحلي والإقليمي والدولي، جعل القوى الكبرى في العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وقوى إقليمية كإيران، وبعد ذلك تركيا، تتداعى إلى سورية من كل حدب وصوب؛ لإدراكها أن الثورة السورية ستحدد مصير الشرق الأوسط برمته، فالأميركيين يريدون مزيدًا من الهيمنة والتفرد والاستحواذ على كل موارد المنطقة ومقدراتها، والروس يريدون العودة إلى الشرق الأوسط من خلال البوابة السورية، وهذا ما حدث، والأوروبيون يبحثون عن دور سياسي واقتصادي في المنطقة، وعلى المستوى الإقليمي؛ فإن إيران من أكثر اللاعبين في المنطقة إدراكًا لخطورة هذه الثورة، وما ستحدثه من تغيرات خطِرة ومباشرة بالنسبة إليها؛ لأنها إذا خسرت نظام الأسد الحليف الاستراتيجي لها، ستخسر نفوذها السياسي والاقتصادي والديني/ المذهبي.

في الحقيقة، هناك صراع حضاري وإمبراطوري على سورية، تدور رحاه في حوض البحر الأبيض المتوسط، والسبب الجوهري في هذا الصراع هو مخزون الغاز في شرق البحر الذي اكتُشف أخيرًا، ولم يُستخرج بعد، وبسبب آبار النفط المنتشرة في شمالي العراق، كما يرى الصحافي التركي، كمال أوزتورك، في مقالة نشرها في صحيفة “يني شفق” التركية؛ إذ يقول: افتحوا خريطة البحر المتوسط وحوضه، وأهم الدول المطلة عليه، وارسموا خطًا بين دلتا النيل وأنطاليا، وستكون المنطقة الشرقية من الخط، هي منطقة شرق البحر المتوسط، ثم ارسموا خطًا من جزيرة قبرص حتى اللاذقية في سورية، وستجدون هنالك (بيار بوجاق) التركمانية، والآن ارسموا خطًا من جزيرة قبرص؛ حتى منتصف ساحل شبه جزيرة سيناء، وستجدون في شرق الخط سواحل قبرص وإسرائيل ولبنان وغزة ومصر، وتُعرف هذه المنطقة باسم (منطقة ليفانت)، فهذه المنطقة، يحسب تقرير مركز الأبحاث الجيولوجي الأميركي، تحتوي على غاز طبيعي بقيمة تتجاوز 3 تريليون و450 مليار، والأمر لا ينتهي عند هذه الثروة التي بمقدورها تغيير الحسابات في العالم، بل إنه، ومن المعروف، سيكون هنالك نفط ليزيد الثروة ثروة؛ لأنه أينما وجد الغاز فإن احتمال وجود النفط عالي جدًا.

وإن صحّ هذا الكلام، لاشك في أن الصراع سيحتدم بين القوى الطامعة في ثروات المنطقة، وتكون سورية، ببرها وبحرها وجوّها، كما قال “توينبي”، ميدانًا لتشظي هذه الحضارات، وهذه القوى العظمى، فهل سنشهد شرق أوسط جديد، وهل الصراع على -وفي- سورية هو الذي سيحدد مصير الشرق الأوسط، وأحجام  دوله وأوزانها وأدوارها إلى أمد، يرجح أن يتجاوز منتصف قرننا الحالي، بحسب ميشيل كيلو، بل وأكثر من ذلك، إن الصراع على دولة بأهمية سورية في الشرق الأوسط، وحوض البحر المتوسط، سيحدد مصير السياسة الدولية والتحالفات الكبيرة المقبلة في القرن الواحد والعشرين الذي وُصف بقرن الطاقة النظيفة (الغاز).

المعلومات المتوافرة تقول: إن هذا الحوض قد يكون الأثرى في العالم بالغاز؛ إذ يؤكد معهد واشنطن أن سورية ستكون الدولة الأغنى، وأن معرفة السر الكامن في الغاز السوري ستُفهم الجميع حجم اللعبة على الغاز؛ لأن من يملك سورية يملك الشرق الأوسط، والأهم من يملك الدخول عبرها إلى الغاز يملك العالم، خصوصًا أن هذا القرن هو قرن الغاز. وذكر التقرير أن سورية هي مفتاح الزمن المقبل، وقد تكون سورية هي مسرح حقيقي لصراع الحضارات وتشظيها، وفق تعبير المؤرخ “توينبي”.




المصدر