on
إيران ترسم خرائط سورية الجديدة
ثائر الزعزوع
لم يكن ما بات يُعرف بـ “اتفاق المدن الأربع” سوى فصل جديد من فصول مخطط بدأ منذ أربع سنوات تقريبًا، وتحديدًا عندما وضع “حزب الله” اللبناني يده على مدينة القصير، وقتئذ لم يؤخذ الأمر وفق دلالته الحالية، وعُدّ نوعًا من الهيمنة العسكرية التي يريد “الحزب”، المصنف إرهابيًا، فرضها على الأرض؛ لضمان مكسب عسكري، في المرحلة التي كان فيها نظام دمشق في أضعف حالاته، وهي المرحلة نفسها التي بدأت إيران خلالها إرسال كبار جنرالات حرسها الثوري؛ للإشراف مباشرةً على المعارك، ونُحي القادة العسكريون التابعون للنظام جانبًا، أُخليت مدينة القصير من ساكنيها الأصليين، لا كما يجري اليوم تمامًا، في ما يُعرف بالباصات الخضر، ولكن بالضغط عليهم ومحاصرتهم، وصولًا إلى دفعهم للفرار، تلك كانت واحدة من مظاهر التغيير الديمغرافي الذي كثر الحديث عنه خلال السنتين الأخيرتين، وقرع كثيرون ناقوس الخطر، معتبرين أن هذه العملية التي باتت تنفذ بطريقة منهجية، لا تسعى إلى فض اشتباك بين متقاتلين، على الإطلاق، لكنها تسعى لرسم جغرافيا جديدة، تضمن -مستقبلًا- رسم حدود دويلة الأسد المفيدة التي قال وزير الخارجية البريطاني، فيليب هاموند، إن روسيا تدخلت خصوصًا في سورية لمساعدة الأسد في إقامتها.
إذن؛ يقضي “اتفاق المدن الأربع” بإخراج المحاصرين في مضايا والزبداني وبردى إلى ريف إدلب، وإخراج المحاصرين من بلدتي كفريا والفوعة إلى مدينة حلب. بمعنى آخر، يُستبدل مواطنون سوريون بمواطنين سوريين آخرين، على أساس طائفي بحت، ودائمًا تكون إيران اللاعب الرئيس في هذا المخطط المرسوم بعناية، إضافة إلى أطراف عربية وإقليمية أخرى، تكون شاهدة على علميات التهجير، لأسباب عديدة، تختلف في كل مرة، مثلما حدث إبان تهجير السكان الأصليين من شرقي حلب، واليوم ما نشهده في المدن الأربع، وقد سئل رأس النظام السوري في أعقاب إخلاء مدينة داريا من ساكنيها الذين رحلوا باتجاه مدينة إدلب، عما إذا كانت ما تقوم به قواته وحلفاؤه عملية تغيير ديمغرافي، فعدّ أن هذا المصطلح المغرض، بحسب وصفه، “لا يستهدف داريا، بل يستهدف سورية، بمعنى أنه يريد أن يعطي صورة لبعض السوريين الذين لا يحللون، وللعالم، أن المجتمع السوري مجتمع مفكك، ومن ثم؛ المجموعات تعيش ضمن الوطن الواحد، ولكن كل مجموعة تعيش في مدينة لا تقبل مجموعات، ولا تقبل شرائح أخرى؛ ليظهروا بأن المدن تنتمي إلى طوائف، وإلى أعراق، والى أديان، وإلى شرائع… فالصورة أكبر من قضية داريا، يريدون استخدام داريا -فقط- لتكريس الصورة التي حاولوا تكريسها منذ بداية الأزمة، وهي القضية الطائفية بالدرجة الأولى”. وقد يكون ما قاله الأسد صحيح نظريًا، لكن إذا ما أخذنا في الحسبان أن مدينة داريا، تلك التي تتجسد فيها، وبوقاحة الهيمنة الإيرانية، فيمكننا ساعتها ندرك أن الأسد كان إنما يمارس عملية الكذب، والتلاعب بالألفاظ التي يحاول من خلالها التغطية على ما يرتكبه على الأرض من عملية تغيير ديمغرافي، وعبث جغرافي، يراد منها أن تصير واقعًا مع مرور الأيام، فقد رُحّل أهلُ داريا كما هو معلوم، وأخليت المدينة من ساكنيها، إخلاء تامًا تقريبًا، لم يبق سوى أولئك الذين يوافقون، وإن مجبرين، على كل ما سيتم لاحقًا، و استوطن المدينة مقاتلون من جنسيات مختلفة، أغلبهم إيرانيون، قاموا لاحقًا بجلب عائلاتهم؛ ما يعني أننا نشهد حالة إحلال، واستبدال نهائي، الحياة تعود تدرّجًا إلى مدينة داريا، لكن بساكنين جدد، مستوطنون بتعبير أصح.
حال داريا تكررت من قبل ومن بعد، في مناطق أخرى، يتعلق الأمر جغرافيًا بالمنطقة التي ما زال النظام وحلفاؤه يفرضون سيطرتهم عليها، وهم يسعون لإخلائها كليًا من المعارضين، وربط سورية بلبنان عبر طرقات لا تعترضها فصائل ثورية، تخضع المناطق الحدودية، ما بين لبنان وسورية، حاليًا خضوعًا كليًا لسيطرة ميلشيا حزب الله، عبر الطريقين الرئيسين، ويرسخ اتفاق الإخلاء الأخير تلك السيطرة، ما يعني أن “الخريطة الإيرانية” يكتمل تطبيقها دون معوقات.
ولكن لماذا يكون المخطط إيرانيًا أصلًا؟
لأننا ببساطة نشهد تهجيرًا للسنة، واستبدال الشيعة بهم، من خلال اتفاق المدن الأربع، بوضوح لا لبس فيه، إبعاد السنة المتمردين، وجلب الشيعة الموالين لإيران، في المشاهد التي نقلتها الكاميرات وقفت امرأة من مدينة الفوعة باكية، تقول إنها لا تريد أن تغادر بيتها، هي بلا شك امرأة سورية لم تطلب من أحد أن يخرجها من بيتها، لكنها تتعرض لعملية الخلع نفسها التي يتعرض لها السوريون الآخرون، ثم إن إيران نفذت مثل هذا المخطط بحذافيره في العراق، إبان الاحتلال الأميركي، استطاعت إيران أن تنشئ ميلشياتها التي أعملت خناجرها وسكاكينها في أعناق العراقيين، حتى اضطروا للفرار، أقيم لاحقًا جدار فاصل يفصل سنة بغداد عن شيعتها، المخطط الإيراني مستمر في العراق، وهو ينجح في سورية.
تحذيرات الأمم المتحدة وبعض المنظمات الدولية من عملية التغيير الديمغرافي تظل حبرًا على ورق، فالمنتصر يفرض شروطه على الأرض، تلك الشروط هي رسم حدود بين دويلات، لن تلبث أن تنبثق من هذا الخراب الذي تمر به سورية، ولا شك في أن “الأمم المتحدة” سوف تتدخل -لاحقًا ربما- عبر قبعاتها الزرق؛ لتفصل بين المتحاربين، وتبقي الحال على ما هو عليه. التغيير الديمغرافي بداية لمشروع تقسيم، ونخشى بعد قليل أن تمتد يد العبث الديمغرافي باتجاه مناطق الغوطة الشرقية التي ما زالت عصية حتى الآن، كل هذه الاحتمالات واردة، ما دام الشعب السوري متروكًا يواجه هذا الطوفان وحده.
أخيرًا، تقول مصادر في العاصمة دمشق إن وزارة السياحة التابعة لحكومة النظام تعدّ العدة لاستقبال مليون زائر إيراني خلال المرحلة المقبلة، تقول الوزارة إنها سياحة دينية، لكن تجربة العراق تؤكد أنهم سيأتون ليستوطنوا، ولاشك في أن تلك المناطق التي هجر منها أهلوها وسكانها الأصليون سوف تتحول بالضرورة إلى مستوطنات إيرانية في “سورية المفيدة” جدًا لإيران ومشروعها التوسعي.
المصدر