الفنان النحات علي سليمان وسؤال البقاء


إبراهيم الزيدي

منذ أن وطأت أقدام المعرفة هذه الأرض أدرك الإنسان أن الحقيقة بعد المعرفة، خطأ ما قبلها، فعبّد لها الطرق، وبنى بينه وبينها الجسور، وابتكر اللغات، فكتب، وقرأ، ونحت، ورسم، وعزف، وغنى، وما زال يبحث ويبتكر السبل لامتلاكها، وما زالت مثل حلم، نصفه في الواقع، ونصفه الآخر في الخيال. هذا الحلم تناوب على إدراكه الفن والأدب والعلم، فهو هاجس الإنسان العارف.

في لقائنا مع الفنان علي سليمان، كان ذلك الحلم ثالثنا. أسئلة كثيرة مرّت بمحاذاة صمت الشواهد الرخامية والخشبية والحديدية التي كانت تحيط بنا. هنا تشكيل يأخذ شكل الولادة، وهناك تشكيل يأخذ شكل الموت، وما بينهما تتراكم الكتل التي تمثل سمة الحياة، ومسمياتها: غزالة نسيت قفزتها في فضاء المشغل، امرأة وضعت يدها العلنية على قلبها السريّ، بعل، عشتار، لوحة مسمارية، هواجس فينيقية لم تتضح معالمها بعد، تشكيلات هندسية، قواعد رخامية… والكثير من الكتل التي ما زالت تبحث عن ملامحها. فمن هو الفنان علي سليمان؟

علي سليمان من مواليد 1958، حاصل على شهادة الهندسة في الميكانيك؛ من جامعة حلب 1981، أقام أول معارضه الفنية في مدينة (ريثمنو) في جزيرة كريت/ اليونان عام 1990، ثم أقام معرضه الثاني في مدينة (أثينا) عام 1991، ثم أنجز كتلة نحتية معدنية في مدينة (باليوخرا) في جزيرة كريت؛ لتصبح بعدئذ رمزًا لتلك المدينة، ثم عاد إلى سورية، وأقام عدة معارض جماعية وفردية في طرطوس وحلب ودمشق، وفي مركز سرفانتس الإسباني، إضافة إلى المعارض السنوية التي كان يشرف على تنظيمها والمشاركة فيها، في مهرجان السنديان في الملاجة؛ فقد أقام خمس ملتقيات نحت في الملاجة، أنجزت في هذه الملتقيات 30 كتلة نحتية متوضعة في وادي عين البعيدة، إضافة إلى ملتقى الشجرة في اللاذقية عام 2005، وملتقى النحت على الحجر في مدينة حمص عام 2007، فأنجز لذلك الملتقى كتلة نحتية تمثل الإشارة السومرية، كف اليد، وهي تحمل الأبجدية المسمارية (حجر رشيد)، وفي طرطوس مثّل عجلة الزمن السوري، وهي كتلة نحتية  لمجموعة لوحات تمثل تاريخ سورية منذ الألف السادسة قبل الميلاد، وحتى بداية الثورة الصناعية، ثم شارك في ملتقى النحت الذي أقيم في مدينة (المونيكار) الإسبانية عام 2009، وفي عام 2010، شارك في ملتقى النحت في مدينة طرطوس، وأنجز “كف الكتابة”، وفي الملتقى الثاني للنحت في طرطوس، أنجز كتلة نحت على الخشب، تمثل جسد بعل وسور طرطوس الأثري. ولم يتوقف عن المشاركة في ملتقيات النحت، وفي كل ملتقى كانت هواجسه الإنسانية والتاريخية هي الحامل الموضوعي لإنجازاته الفنية.

لم يكن اللقاء مع الفنان علي سليمان يقتضي حوارًا بالمعنى الحرفي، فقد كانت الأسئلة متبادلة بيننا، فهو لا يمل من الحديث عن الحب، وفي الحب يمكننا أن نجد الأجوبة كلها. سألته عن البدايات، فانداح بيننا نهر ذكرياته عن ذلك الطفل الذي كان مغرمًا بتجسيد الأشكال من أي مادة يجدها بين يديه، وذلك الشاب الذي كانت هندسة الميكانيك قيمة فنية مضافة لشغله في النحت، وذلك الرجل الذي وجد في الفن ملاذًا آمنًا لروحه السورية الباحثة عن سلام المعرفة، في زمن حروب الجهل، مما اضطرني أن أستوقف حركة يديه اللتين كانتا تلامسان إحدى المنحوتات بوله العاشق، وأسأله بتلك الطريقة الفجة: علي سليمان لماذا أنت هنا؟

هنا يمكنني أن أذهب عميقًا، أذهب آلاف السنين، هذا العمق لا يتوفر لي هناك.. وإن توفر، فهو ليس لي.

هنا يمكنني أن ألتقط ابتسامة عابرة بين شفتي طفل، فأفرح، هناك.. سيكون فرحي منقوصًا.

هنا يمكنني أن أحب، وتحمل عواطفي ذلك الحب، هناك يمكنني أن أحب، وستنوب رغبتي عن عاطفتي.

هنا يمكنني أن أغني، وقد يأخذني الغناء إلى حزن شفاف، هناك.. يمكنني أن أغني، وسيأخذني البكاء من الغناء.

هنا يأخذ الحجر بالنسبة إلي قيمة تاريخية، هناك.. يأخذ الحجر قيمة جمالية.

هنا أحس بالانتماء، هناك.. أحس بالغربة، وهل هناك ما هو أصعب من الغربة؟! لا أريد أن أكون غريبًا، سأدافع عن وجودي هنا بكل أسلحة الحب والجمال، وسأرفع إزميلي في وجه نتوءات الصخر، وأدوّر زوايا الخلاف مع أحبتي. وجودي يقتضي ذلك، وإنسانيتي تقتضي ذلك، والفن يقتضي ذلك أيضًا.

وجودي هنا ليس آنيًّا، إنني هنا منذ آلاف السنين، فكيف أغادر؟!”

بعد تلك الكلمات لم يعد ثمة جدوى لمناقشة تاريخ الفن، أو المدارس الفنية التي ينتمي إليها، فحملت صمتي وغادرت مشغله مشيًا على قدمين طاعنتين في التعب.




المصدر