المستبدّ العادل


سلام الكواكبي

يميل بعض المستشرقين ودارسي المنطقة العربية إلى الاعتقاد؛ وحتى الجزم، بأن الشعوب المشرقية عمومًا، والعربية- الإسلامية خصوصًا، تعاني فقرًا ثقافيًا ومعرفيًا بمبادئ الديمقراطية والتعددية السياسية، إضافة إلى أنها تحتاج إلى قائدٍ حازمٍ، يمكن أن يزاوج بين صفة الاستبداد وصفة العدل. وهم يستندون في ذلك -خصوصًا- إلى بعض كتابات التنويريين الإصلاحيين، كمحمد عبده، الذين وجدوا في المستبد العادل حلًا آنيًا لمشكلات التخلف السياسي، والجهالة المجتمعية، والتسلطية الدينية، والاستبداد المطلق للحاكم، في إطار استحالة إيجاد المنظومة السياسية الملائمة لتحقيق الديمقراطية التي يعدّونها محصورة بمساحات جغرافية محددة، ولقد طُوّرت أبحاث في هذا المجال، سعت للإشارة إلى المحمولات الدينية، وإلى الثقافات السياسية التي تحرم المجتمعات المدروسة من الحق في السعي إلى الديمقراطية.

وعلى الرغم من تمسك الغرب، ثقافة وممارسة، بالمفهومات الديمقراطية وبتداول السلطة وبالتعددية وبفصل السلطات، إلا أنه ما فتئ يمتدح بصريح العبارة مستبدين “عادلين” كمصطفى أتاتورك والحبيب بورقيبة لتبنيهما مشروعًا متطور في ادارة البلاد التي امتلكاها. وفي القريب ليس بالبعيد، كان بعض رموز الغرب السياسيين يمتدح بمخفي العبارة؛ خجلًا من بعض عتاة الطغاة، كصدام حسين، ملصقًا بهم ما لم يّدعوه لأنفسهم من علمانية ومن انفتاح على الحداثة.

مع انطلاقة الربيع العربي وجد هؤلاء أنفسهم في حرج شديد، وسعوا إلى الالتفاف على النقص المعرفي، وأحكام القيم الجامدة، من خلال استنباط نظريات “مشدودة من شعرها”، كما يقول المثل الفرنسي؛ لشرح التطورات، وتفسير عدم التوقع، وتسويغ الأمر وكأنه عدوى غربية وقعت بالمظلة على شعوب لا تعرف مضامين محمولها، وانتشر التشاؤم من المآل، وتوقع الأسوأ؛ سعيًا لاستباق الأمور، وقناعة تامة بعجز هذه المجتمعات عن ادماج قيم حداثية متحررة، وعندما بدأت ملامح انتكاسات متعاقبة في التجارب الثورية، أو التحولات العربية، تنفس هؤلاء الصعداء، وجاءهم الترياق المنعش من كبوة المفاجأة. وصاروا منهمكين في كتابة ما لذ وطاب من معلقات، توضّح أنهم كانوا قد توقعوا ذلك. وتبحّروا في شرح الأعطاب الهيكلية والتهتكات البنيوية في المجتمعات العربية التي لا يمكن ان تسمح لها بالتوجه نحو التحول الديمقراطي في الوقت الراهن.

وتبنّت -من جهتها- مجموعات كثيرة من النخبة العربية هذا الخطاب، وطورته بصورة أشد ايلامًا، من ناحية محموله الإقصائي، وترفّعت -كما كانت عادتها دائمًا- عن مجتمعاتها، واصمةً إياها بما يُرضي الحاكم بأمره محليًا، من جهة، والحاكم برأيه غربيًا، من جهة أخرى. وسال القيح الأسود على صفحات بيضاء؛ ليلوثها بنظريات تمييزية، عنصرية، متعالية، انعكست ممارسةً في التعامل مع ضحايا قمع هذه الاحتجاجات.

ومن الضروري، ومن الأمانة العلمية والكتابية، أن يشار إلى أن معظم من تبنى هذا التوجه محليًا كان من مدّعي العلمانية، أو متسلقي أكتاف اليسار المنهكة، ومن ثَمّ؛ فقد تُركت ساحة الإيمان بالتحول الديمقراطي للمحافظين الإسلاميين لتبنيها، أو للراديكاليين الإسلاميين لمحاربتها. وتخلّت نخبة، كانت هي السبّاقة -نظريًا- إلى تبني الديمقراطية وحتميتها، عن دورها، وتحوّلت إلى “أبواق” تردد ما يكتبه بعض الغربيين، أو أنها استنبطت من لدنها ما يُثبط الاعتقاد والأمل.

من جهة أخرى، نجد أن بعض أبناء الثورات العربية التي وصلت إلى نتيجة محدودة، كما في تونس، أو التي انتكست وتحولت إلى مقتلة، كما في سورية وفي ليبيا، يميل إلى “عبادة” رموز مستبدة في المطلق، كما يفعل بعض اليسار التونسي الذي يدّعي أنه قام بالثورة في بلاده؛ ليرفع اليوم صورًا لبشار الأسد في تظاهرات، تُذكّر بمسيرات الحشد والتأييد التي تُخرجها أجهزة أمن بلد ديكتاتوري بامتياز. أو يميل إلى تقديس حاكمٍ منتخبٍ، يتحوّل بخطا متسارعة نحو التسلطية، كما يفعل بعض أبناء الثورة السورية مع رجب طيب أردوغان؛ ربما عرفانًا بجميله الذي لا يُنكر في استضافتهم، أو لميول بعضهم الدينية التي ترى فيه حامي حمى الإسلام المهدد. وهناك جزءٌ لا بأس به من أبناء الثورات العربية يميل إلى تمجيد طاغية كصدام حسين؛ لتموقعه الديني المتفجّر مع التحوّلات الطائفية التي تؤججها التدخلات الإيرانية في عدد من الدول، وعلى رأسها سورية والعراق.

لا يوجد مستبد عادل، فالعدالة ترفض الاستبداد، والعادل لا يمكن أن يكون مستبدًا، كما أن المستبد لا يمكن أن يعدل، إلا إذا رأينا عدله في توزيع سمومه وحقده وغضبه وضرره بالتساوي بين الرعية. والخيبات أو الانكسارات أو النكسات لا تسوّغ أن تعود الناس إلى مربع التسلط والاستبداد.

في الأيام الأخيرة، ومن خلال مراقبة ردات فعل بعضهم على نتائج الاستفتاء التركي، كاد أن يظهر أن ما هرف به المستشرقون دقيق، وأن خطابهم التشكيكي الثقافوي -الذي ما فتئنا نفككه- صحيح وقابل للتصديق. فرفض أي انتقاد للتسلطية الأردوغانية، وهو الانتقاد الذي يبرز حتى في أوساط حزبه، يكاد يكون السمة الطاغية على ردات فعل بعض السوريين خصوصًا؛ وهو مدعاة للملاحظة والتحليل، خصوصًا أنه يصدر عمن ادّعى يومًا بأنه خرج ضد المستبد غير العادل في بلاده؛ من أجل الحرية والعدالة والكرامة.

لقد كان عبد الرحمن الكواكبي (من 1855 إلى 1902) لا يرى في المستبدّ العادل المتوهَّم سوى استبدال مستبد بآخر؛ ما يطوّر الاستبداد ولا يمحوه، ذلك؛ لأنّ الحاكم لا يمكن أن يقيم عدلًا مع الاستبداد، فعدالة السياسة تكون في إشراك المحكومين بالحكم.




المصدر