أميركا تشمر عن سواعدها


طريف الخياط

يؤكد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يومًا بعد يوم، الصفة التي لازمته منذ بدايات حملته الانتخابية، بأنه شخص يصعب التنبؤ بردّات فعله؛ ففي اللحظة التي بدا فيها أن ملامح نهج الإدارة الأميركية الجديدة في سورية قد بدأت بالتشكل، أتت الضربة الأميركية العقابية، والمحدودة، للنظام السوري؛ لتعيد إلى القوة العسكرية الأميركية حضورها مجددًا، بوصفها رقمًا صعبًا في المعادلات القائمة، سواء في الشرق الأوسط أو في المسرح الدولي. في المقابل، لا يمكن القول إن تلك القوة مطلقة؛ إذ تفرض الأوضاع الراهنة في أكثر من ساحة قيودًا، يهدد تجاوزها باندلاع حروب كبرى ومكلفة، ليست القوى العظمى في وارد خوض غمارها.

تعدّ حادثة خان شيخون التي لجأ فيها النظام السوري إلى استخدام أسلحة كيماوية محرمة دوليًا، مستهدفًا المدنيين في مناطق المعارضة، نقطة تحول مهمة، من جهة الرد العسكري الأميركي الذي استدعته. أراد الأسد أن يختبر ردة فعل واشنطن، ويوجه إلى المعارضة رسالة حاسمة بأن له اليد الطولى على الأرض، وأن لا رادع لإجرامه، وذلك بعد أن أكد أكثر من مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية أن النظام ورأسه ليس ضمن أولوياتها، أما ترامب، فقد استفاد من الضربة؛ كي يعلن قطيعة مع سياسات ونهج إدارة سلفه، باراك أوباما، الذي اتسم عهده بالتردد والتهديدات الجوفاء بالقوة، من دون استخدامها.

لقد شكلت جريمة الأسد في خان شيخون فرصة سانحة للرئيس الأميركي، مكنته من الظهور بمظهر الرئيس الحازم الذي يفعل ما يقول، كما وفرت تغطية ملائمة لنكساته الداخلية، والشبهات التي تحيق بصلات حملته الانتخابية، وبعض أركان إدارته الحاليين والسابقين مع روسيا، وحملت في طياتها رسائل ترددت أصداؤها في طهران وبيونغ يانغ؛ وحتى في موسكو وبيجين. في المقابل، وكما أشرنا في بداية المقالة؛ فإن هناك حدودًا لما تستطيع أن تنجزه القوة العسكرية الأميركية، ليس من حيث إمكاناتها وقدرتها الضاربة، وإنما من حيث التوازنات والحسابات الدقيقة في المسارح التي تتحرك عليها، وخصوصًا في سورية وكوريا الشمالية.

لا يمكن القول بتغيير أولويات واشنطن في سورية؛ إذ إن الهدف الرئيس يبقى القضاء على “داعش” وطردها من الرقة، وحتى موقف واشنطن المستجد من النظام السوري، واستعادة الحديث عن ضرورة رحيل الأسد، لا يعني أن الجيش الأميركي مستعد للتدخل والمخاطرة بمواجهة عسكرية مع روسيا في سبيل تحقيق ذلك الهدف. الفارق في مرحلة ما بعد الضربة الأميركية، هو أن الخطوط الحمر السابقة، وما قد يستجد منها، باتت مسلحة بأنياب؛ لضمان التزامها، بما في ذلك ضربات عقابية أخرى، أو ربما التهديد بتحييد سلاح الجو السوري، ويكفي أن الولايات المتحدة قد أظهرت أنها مستعدة للاستمرار في حربها ضد التنظيمات “الإرهابية” في سورية، في أجواء أشد توترًا وتهديدًا لقواتها الجوية والبرية؛ بما يعدّ خطوة تصعيدية جريئة، ويوحي بأنها قد تكون عازمة على تغيير قواعد اللعبة في ذلك البلد الذي بات ساحة صراع مفتوحة ومعقدة.

لذلك -أيضًا- انعكاساته على الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية، حيث تعمل الولايات المتحدة على تعزيز أسطولها البحري في المنطقة، وأنظمة الدفاع الجوي في كوريا الجنوبية، وذلك في رسالة قوية إلى نظام بيونغ يانغ، وسعيًا لزيادة الضغوط على الصين، ودفعها نحو اتخاذ أكثر الخطوات جدية في اتجاه لجم البرنامج النووي للدولة الستالينية. تبقى خيارات واشنطن العسكرية محدودة في تلك الساحة أيضًا، وذلك بسبب الترسانة البالستية الوازنة لكوريا الشمالية، وتقع سيؤول عاصمة جارتها الجنوبية في المدى المجدي لقدرتها التدميرية؛ ما يرفع الثمن المترتب على أي عمل عسكري شامل للإطاحة بالنظام الكوري الشمالي، ويهدد بمواجهة مع الصين التي لا يمكن استبعاد تدخلها إلى جانب بيونغ يانغ حليفتها المزعجة. إنه من المرجح، من ثم، وفي حال لجوء واشنطن إلى الخيار العسكري، أن تعمد الأخيرة إلى توجيه ضربات عقابية محدودة أو حتى استهداف المنشآت النووية الكورية الشمالية بما يؤدي إلى تأخير تقدم برنامجها النووي، من دون القدرة على تدميره كليًا.

ربما قرر العم سام أن يُشمّر عن سواعده، وبات يهدد باستخدامها، بما يكفي لإعادة ضبط الإيقاع على مستوى دولي وإقليمي. يعني ذلك أن التقارب التركي الروسي قد يتراجع بضع خطوات إلى الوراء، وستستعيد العلاقة بين موسكو وطهران زخمها وأهميتها، بعد أن لاحت بوادر الشقاق بين البلدين في سورية، عبر سعي الأولى للتقارب مع واشنطن وأنقرة -كل على حدة- على حساب الأخيرة، أما الصين، فقد قررت -أيضًا- أن تقترب -على طريقتها- خطوة من الولايات المتحدة، فامتنعت عن التصويت على مشروع قرار يدين النظام السوري بعد ضربة خان شيخون الكيماوية، وتركت الفيتو الروسي وحيدًا في مجلس الأمن.

ليس واقعيًا أن نذهب بعيدًا، ونعدّ التغيرات في العلاقات الدولية في طريقها إلى الاستقرار على الشكل السابق، فعلى صعيد العلاقات الصينية- الأميركية، من الممكن أن تؤدي ملفات كثيرة شائكة وخلافية بين البلدين إلى تفجيرها، أما من جهة التوتر المتصاعد بين موسكو وواشنطن، فإن روسيا تبدو وكأنها لا تزال معنية بعدم دفع العلاقات بين البلدين إلى مزيد من الانحدار، ومن الملاحظ أن الأخيرة لا ترغب في التصعيد، وتسعى إلى التهدئة، على الرغم من لهجتها الحادة، إذ لم تلجأ إلى تسخين جبهة أوكرانيا، أو العمل لفتح جبهات أخرى، كتلك التي في مولدافيا. على مستوى أنقرة، أيضًا، يبدو أن روسيا مهتمة باستمرار مسار آستانا، ومن ثم؛ عدم قطع أحد القنوات المهمة التي تبقي الباب مفتوحًا للتنسيق مع تركيا في سورية.

إنه ترامب الشخص الذي يريدنا أن نتوقع منه غير المتوقع، ولا يغري قول بعض الخبراء أنه برهن مقدرته على سرعة التعلم، فالشأن يبدو أكثر صلة بالمؤسسات الأميركية وقدرتها وأدواتها المباشرة وغير المباشرة على ضبط سلوك رأس هرم السلطة التنفيذية في تلك البلاد.

لكنه، أيضًا، ترامب الشعبوي الذي وصل إلى البيت الأبيض عبر أغرب حملة انتخابية في التاريخ الأميركي، ولا يزال يملك كثيرًا من الأزرار التي يحرك -من خلالها- هذا العملاق الدولي، كما لن يتردد أن يستخدمه في الخارج للتغطية على الداخل.

إلى أي وجهة سيقود ترامب أميركا؟ هذا ما سنختبره في المستقبل، حين يصبح واقعًا معاشًا، لكن في سورية على الأقل، فإنه من الصعب التيقن من مدى وجدية العداء المستجد بين الإدارة الأميركية ونظام الأسد، قبل القضاء على تنظيم “داعش” وطرده من الرقة.




المصدر