لماذا السينما العربية متخلفة؟


فيصل الزعبي

واجهتُ هذا السؤال منذ اليوم الأول، لدخولي معهد السينما، وبقي -بعدئذ- يصطدم بي عن طريق الصحافيين أو الناس، وفي أمكنة ولقاءات متعددة.

تنوع هذا السؤال، من خلال انقلاباته المختلفة، مثل لماذا الدراما العربية متخلفة، أو التلفزيون العربي، أو المسلسلات وهكذا.. فلماذا لم تواكب السينما العربية العصر والتطور السينمائي في العالم، ليس المتقدم كأميركا وأوروبا؛ وإنما كثيرًا من دول العالم الثالث، المشابه لنا في التطور، كأميركا اللاتينية، بدولها المختلفة، وبعض دول أفريقيا وإيران وغيرها، مع العلم أن السينما المصرية أقدم من السينما الإيطالية، فقد كان عرض أول شريط سينمائي للأخوين المؤسسين “لوميير” بعد فرنسا، في مصر، وفي الإسكندرية عام 1890. يصبح السؤال محقًا وملحًا في الوقت نفسه، ويصبح ذا مشروعية لسائله، إن كان صحافيًا أو مهتمًا أو باحثًا أو مواطنًا عاديًا، لكن الجواب –عمليًا- ليس في جعبة الفنان، وإذا امتلك الفنان الجواب؛ لن يمتلك الحل أو بعضًا منه، بل يمتلك الألم والذهول فحسب، مثله مثل غيره من المبدعين.

الفن السينمائي فعل حداثي. عمره لا يتجاوز القرن ونيف، ويحتاج إلى مجتمعات حداثية -أيضًا- تكون حملًا له ولها. فمن الصعب على مجتمع متخلف غير مستعد للجديد، أن يتفاعل مع هذا الوليد الشقي؛ ومع أفكاره ومخياله وغرابته. فالمجتمع المتخلف لن يطور ولن يساند أو يدعم فنًا جديدًا غريبًا عن تركيباته السلفية؛ في الفكر والاعتقاد والممارسة؛ لذلك، كانت السينما حدثًا صاعقًا ومفاجئًا للمجتمعات العربية التي تعيش في حال من الركود الزمني. وقد أصيبت بحالة تأمل داخلي رافض للسينما في الصميم، وإن تفاعلت معها من حيث الشكل.

ثم إن السينما ليست فعلًا حداثيًا وحسب؛ وإنما هي فعل فني حديث، في الشكل البنائي والبصري والصناعي، خلق ذهولًا فنيًا واجتماعيًا واقتصاديًا؛ ما جعل هذا المخلوق الجديد غريبًا، وله إشكالية خاصة به، تبعده من إمكانية الإبداع، من جهة، ومن رؤيته صناعةً، من جهة أخرى.

هنا، لا بد من الحديث عن ماهية تسمية السينما بالفن السابع، ليس لأنه جاء بعد ستة فنون وحسب: العمارة والموسيقا والرسم والنحت والشعر والرقص‏ (كما صنفها اليونان)؛ بل كونها مزجت هذه الفنون الستة واحتوتها في فن سابع مرتين: مرة في ترتيب حضورها، ومرة في تكوينها واحتوائها لهذه الفنون مجتمعة .

لذلك، يمكن القول إن تخلفها جاء من تخلف هذه الفنون أيضًا، فارتبطت بالتطور العام الفني والثقافي والإبداعي تلقائيًا! إن كل تخلف في هذه الفنون، ينعكس عليها مباشرةً، ثم ينعكس على بنائها ووجودها وتطورها اللاحق، وكان فن المسرح أكثر هذه الفنون تأثيرًا في السينما؛ لأنه فن درامي أدائي، استعارت منه السينما تفاصيل كثيرة؛ أولها الدراما وعلمها، والتمثيل وعلمه، وبناء المشهد الأدائي برمته. والمسرح العربي، وبخاصة في البلدان التي يمكن لها أن تكون حاضنة لصناعة السينما، مسرح متخلف عن العالم من جهة، وعن مفهومات المسرح العلمية الفنية، من جهة أخرى. وقد انعكس كل ذلك على السينما وخلق منها فنًا ركيكًا غير قادر على الدخول في عمق المفهومات السينمائية وتركيبتها الدرامية المقنعة لضرورة وجودها، كفن جديد طليعي، عليه أن يتعدى ما قبله من فنون.

وإذا ما نظرنا إلى الرواية، بوصفها فنًا تعبيريًا حكائيًا، تستند إليه السينما؛ رأينا أنها ولدت عند العرب في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، وكان قد مضى على وجود السينما ثلاثة عقود؛ ما يعني أن تخلف الرواية أسهم في تخلف السينما العربية، ووضعها في سرد روائي ممل؛ وضعيف التركيب والحبكة والبناء برمته. لا يمكن أن نصنع سينما جميلة وعميقة من دون سيناريو (نص)، فالسيناريو ابن الرواية في البناء الحكائي والفني، وقد تطورت السينما العالمية مدرسيًا، بالتوازي مع تطور الرواية ومدارسها الفنية.

إضافة إلى أن السينما بنت المدينة، بنت المجتمع المدني، بتفاصيله ومركباته الطبقية والاجتماعية، والصناعية.

وقد جاءت السينما إلينا بمعزل عن هذا الوجود الحاضن السليم والمعافى. كانت المدينة عندنا مشوهة وغير ناضجة، وكذلك كانت السينما. فالمجتمعات القبلية والبدوية، لم تسمح بولادة الفنون الأخرى، واعتمدت على فنون لا تنتمي إلى القص والمسرح، وكذلك كانت السينما طبعًا.

الأهم من كل هذا أن السينما حضرت إلينا ونحن نرزح تحت وطأت أنظمة استبدادية، غير قادرة على استيعاب فعل الحرية الذي تنتجه السينما. فالسينما فعل ابداعي مفتوح على آفاق الخيال والتحرر العقلي والسياسي من أنظمة الاستبداد -بأصنافها المتنوعة- المعادية لحرية الفكر وحرية التنظيم السياسي وحرية المعتقد الديني، فوقعت تحت وطأة الثالوث المحرم، الدين والجنس والسياسة، وفقدت المساحات اللازمة لتنمو فيها معافاة، وقادرة على التعبير، فانتمت للتهريج والسطحية، والخوف من الانتماء للتغير الثوري في الفكر والحياة والهوية.

وأخيرًا وليس آخرًا، فالسينما لم يكن لديها صنّاع محترفون، ولا أدوات تكنولوجية ومؤسسات اقتصادية وصناعية تسمح بتطورها؛ فغابت الرغبة والرؤيا والتمكين والتنفيذ. وكانت الحصيلة، أن العالم قطع أشوطًا كبيرة في تطور صناعة السينما، وبات من الصعب اللحاق به. ربما فاتتنا الفرصة، كالفرص الكثيرة التي أضعناها.




المصدر