تكاليف المعيشة في مدن العالم


جيرون

يعيش اليوم نحو 54 في المئة من سكان العالم في المدن، مع استمرار الخطط والسياسات الحكومية الهادفة إلى تعزيز حركة التمدن حول العالم، وقد أدّت إلى تركّز الاستثمارات المباشرة ومراكز النشاط الاقتصادي في المدن بدلًا من الأرياف. عزز ذلك الهجرة من الريف إلى المدينة؛ الأمر الذي بدأ مع تراجع حصة قطاع الزراعة أمام بقية مجالات النشاط الاقتصادية خلال العقود الماضية.

تشير أرقام الأمم المتحدة إلى استمرار النمو في عدد سكان المدن، ومن المتوقّع أن يصل في 2050 إلى نحو 66 في المئة، ليمثّل ذلك موجة جديدة من التبدلات الديموغرافية حول العالم ترتبط هذه المرة بالثورة الرقمية، وتأثيراتها واسعة الطيف على أسلوب عمل الشركات وعناصر الإنتاج الاقتصادي. ومن ثمّ؛ ستبدو التبدلات الديموغرافية من أكثر المظاهر قدرة على تفسير التحولات الاقتصادية حول العالم من جهة، وتأثير العولمة الاقتصادية على هيكل النشاط الاقتصادي وانعكاساته على الجوانب المعيشية المختلفة للأفراد والمجموعات المرتبطة بها من جهة أخرى.

وعلى الرغم من أن زيادة الدخل المخصص للإنفاق ساهمت مساهمة رئيسة في زيادة رغبة الأفراد وقدرتهم على الانتقال للعيش في المدن، إلا أن عوامل أخرى أدت في المقابل إلى الحد من المكاسب الاقتصادية للأفراد الذين باتوا مضطرين إلى التكييف مع تكاليف المعيشة المرتفعة.

تشير الدراسة الأخيرة التي أجرتها “وحدة المعلومات” التابعة لمجلة “ذي إيكونيميست” البريطانية حول تكاليف المعيشة، في مدن العالم عام 2017 إلى استمرار ارتفاع تكاليف المعيشة في المدن الآسيوية الرئيسة، وهي التكاليف التي رافقت التطورات الاقتصادية التي شهدتها تلك الدول خلال الأعوام الماضية. إذ احتلت سنغافورة المرتبة الأولى عالميًا في تكاليف المعيشة للعام الرابع على التوالي، تلتها في ذلك هونغ كونغ، فيما حافظت مدينة زيورخ السويسرية على مركزها في المرتبة الثالثة، تلتها مدينتا طوكيو وأوساكا اليابانيتان.

ترتيب مدن العالم من حيث تكاليف المعيشة للعام 2017
الدولةالمدينةالترتيب
سنغافورةسنغافورة1
هونغ كونغهونغ كونغ2
سويسرازيورخ3
اليابانطوكيو4
اليابانأوساكا5
كوريا الجنوبيةسيول6
سويسراجينيف7
فرنساباريس7
الولايات المتحدةنيويورك9
الدنمارككوبنهاغن9
المصدر: تقرير تكاليف المعيشة للعام 2017

تأثير أسعار العملات

يعمل النمو الاقتصادي للدول، إضافة إلى التبدلات في قيمة عملاتها الوطنية، دورًا أساسًا في التأثير في تكاليف المعيشة، فيما يعزز تباين النشاط الاقتصادي، داخل الدولة، تفاوت التكاليف بين المدن في ما بينها وأمام الريف أيضًا.

أدى التراجع الطفيف للدولار الأميركي في العام الماضي إلى تراجع ترتيب مدينة نيويورك في “مؤشر تكاليف المعيشة” إلى المرتبة التاسعة، متراجعة بذلك ثلاث مراتب عن المركز السابع في تقرير العام الماضي.

ولتوضيح مدى العلاقة بين التبدلات السريعة في تكاليف المعيشة والدولار الأميركي، بالنسبة إلى مدن العالم الرئيسة عمومًا، والمدن الأميركية خصوصًا، يجب العودة إلى مؤشر تكاليف المعيشة للعام الماضي؛ إذ انعكس ارتفاع الدولار أمام العملات الرئيسة خلال العام 2016، على عودة مدينة نيويورك لتكون ضمن المدن العشر الأكثر غلاءً في العالم، لتُنقل بذلك من المركز 22 إلى المركز السابع، وذلك خلال 12 شهرًا فقط.

تراجع تكاليف المعيشة وانعكاسها على ترتيب المدن
الدولةالمدينةالترتيب 2017التغير في الترتيب
المملكة المتحدةمانشستر51-25
الأرجنتينبوينس آيرس82-20
المملكة المتحدةلندن24-18
الصينبكين47-16
الصينسوجو69-16
نيجيريالاغوس132-16
الصينغوانزو69-13
الصينتيانجين69-13
الصينداليان32-11
المكسيكمدينة مكسيكو82-9
المصدر: تقرير تكاليف المعيشة للعام 2017

يذكر أن ترتيب العاصمة اليابانية تراجع -في تقرير العام الحالي- لتصبح في المركز الرابع، بعدما كانت تتربع على قائمة المدن الأكثر غلاءً في العالم، في تقرير العام 2012؛ يعود ذلك بشكل رئيس إلى تراجع قوة الين الياباني أمام الدولار خلال الأعوام الماضية، والتحسن في مؤشرات الاقتصاد الكلي خلال العام 2016؛ الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار السلع والمنتجات الاستهلاكية مجددًا، ما دفع بعودة المدن اليابانية إلى القائمة من جديد.

وانعكس النمو المستدام في اقتصاد كوريا الجنوبية على تكاليف المعيشة في العاصمة “سيول” التي احتلت المركز السادس في التقرير، في حين كانت تحتل المركز 50، قبل سبعة أعوام فقط. في المقابل، أدى تراجع نمو الاستهلاك الداخلي، وتخفيض قيمة العملة الصينية إلى تراجع ترتيب المدن الصينية في مؤشر تكاليف المعيشة، في العاصمة بكين والمراكز الاقتصادية في سوجو وغوانزو وتيانجين وداليان.

من جهة أخرى، أدى التصويت، على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى تعزيز المخاوف حول المستقبل الاقتصادي للاتحاد الأوروبي وبريطانيا ومستقبل التعاون الاقتصادي والوصول إلى الأسواق؛ ما تسبب في تراجع قيمة الجنية الإسترليني بنحو 16 في المئة منذ ذلك الحين. انعكس تراجع الإسترليني مباشرة على تكاليف المعيشة في المدن البريطانية، وخصوصًا مدينة مانشستر التي خسرت 25 مرتبة في تقرير تكاليف المعيشة في العام الحالي لتصبح في المركز 51. أما لندن فقد تراجع موقعها من المركز السادس في تقرير العام الماضي إلى المركز 24، وهو الأقل للعاصمة البريطانية منذ عشرين عامًا.

تأثير أسعار النفط والمواد الأولية

يؤثر التذبذب في أسعار المواد الأولية والطاقة، بصورة مباشرة، في تكاليف معيشة الأفراد التي ترتبط بتكاليف البناء ونقل البضائع وصولًا إلى التنقل والسفر؛ إذ أدت أسعار النفط المنخفضة في العام الماضي وتباطؤ نمو أسعار السلع الأولية إلى إبقاء معدلات التضخم منخفضة خلال الفترة الماضية في اقتصادات الدول المتقدمة. أما في اقتصادات الدول الناشئة، فقد شهدت معدلات التضخم هناك ارتفاعات كبيرة، خصوصًا في الدول التي تراجعت عملاتها مع تراجع أسعار النفط والسلع الرئيسة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، إذ عززت مكاسب عملاتها أمام الدولار معدلات التضخم. إضافة إلى ذلك، فقد شهدت اقتصادات الدول الناشئة التي ما تزال تعتمد على إنتاج النفط والمواد الأولية تضاعفًا في معدلات التضخم مع بداية تعافي أسعار المواد الأولية والطاقة عن معدلاتها قبل ثلاثة أعوام.

شكل ذلك تحديًا لسكان مدينتي “ساو باولو” و “ريو دي جانيرو” في البرازيل اللتين تعدان من أكثر مدن العالم التي شهدت ارتفاعًا في تكاليف المعيشة خلال العام الماضي، حيث تقدم ترتيب المدينتين 29 و27 مرتبة تواليًا في تقرير العام الحالي. ويكمن التحدي في أنّ المدينتين كانتا ضمن قائمة المدن الأكثر غلاءً قبل خمسة أعوام فقط؛ لتصبحا اليوم من أرخص 30 مدينة في العام.

ارتفاع تكاليف المعيشة وانعكاسها على ترتيب المدن
الدولةالمدينةالترتيب 2017التغير في الترتيب
البرازيلساو باولو7829
البرازيلريو دي جانيرو8627
نيوزلنداولينغتون1626
نيوزلنداأوكلاند1622
أستراليابريزبن3118
أسترالياأديلايد3518
تركياإسطنبول6216
الأوروغوايمونتفيديو6215
روسياموسكو9815
آيسلانداريكيافيك1613
المصدر: تقرير تكاليف المعيشة للعام 2017

وأثرت تقلبات أسعار النفط، بصورة غير مباشرة، أيضًا على ترتيب مدينة ألماظا، المركز التجاري لكازاخستان لتصبح في تقرير العام الحالي المدينة الأرخص للسكن في العام، متراجعة ستة مراكز خلال العام الماضي. وعلى الرغم من الإجراءات الحكومية للسيطرة على الأسعار بعد وصول معدل التضخم إلى أكثر من 20 في المئة، إلا أن ذلك لم يغطِّ بعدُ خسارة العملة المحلية أكثر من نصف قيمتها، بعدما فرضت أسعار النفط المنخفضة على الحكومة تعويم عملتها “تينغ” أمام الدولار للحد من الضغوط على خزينة الدولة والسيطرة على العجز التجاري. يتشابه الحال مع لاغوس في نيجيريا، ثاني أرخص مدينة للعيش في العام، حيث أدى أيضًا تخفيض عملتها “النايرا” مع هبوط أسعار النفط إلى انخفاض أسعار السلع في لاغوس بأكثر من 50 في المئة بالمقارنة مع أسعار العام 2008.

المدن الأرخص للعيش في العالم
الدولةالمدينةالترتيب 2017التغير في الترتيب
كازخستانألماظا133-6
نيجيريالاغوس132-16
الهندبنغالور1311
باكستانكراتشي130-3
الجزائرالجزائر1270
الهندتشيناي1270
الهندمومباي1274
أوكرانياكييف124-6
رومانيابوخارست124-2
الهندنيودلهي1242
المصدر: تقرير تكاليف المعيشة للعام 2017

تأثير العوامل الإضافية

من المؤكد أن تتّبع تكاليف المعيشة لا يُعدّ معيارًا كافيًا لرسم تصور شامل للحياة في مدن حول العالم، ولا سيّما أن انخفاض تكاليف المعيشة، في مدينة ما، لا يعني بالضرورة أن الأمور تسير هناك على ما يرام وخصوصًا في الدول النامية. حيث يمثّل تراجع الأسعار ضغوطًا إضافية على البنى التحتية، إضافة إلى المشاكل الأمنية والأعباء الاقتصادية في كل من الهند وباكستان وأوكرانيا ورومانيا. ويوفر مؤشر “قابلية العيش” للعام 2016 مقاربة مختلفة؛ إذ في حين كانت دمشق بين المدن العشر الأرخص في العالم العام الماضي، احتلت في المقابل المركز الأخير في مؤشر “قابلية العيش” في العام نفسه. مع تراجع مؤشرات الاستقرار والتعليم والبنية التحتية بأكثر من 25 في المئة منذ العام 2011.

التبدلات المحتملة خلال العام الحالي

كما تبين مما سبق، تكاليف المعيشة حول العالم في تبدّل مستمر، وتتبع في ذلك التغيراتِ الاقتصادية التي تشهدها الدول وتأثيرات أسعار النفط والسلع الأساسية. فعلى الرغم من ارتفاع أسعار النفط بداية العام الحالي، وارتفاع أسعار السلع الأولية أيضًا للمرة الأولى منذ أكثر من سنوات عدّة، فقد يدفع تكاليف المعيشة إلى الارتفاع مجددًا حول العالم، إلا أن بقاء النفط، دون مستويات 100 دولار، التي تمتّع بها قبل العام 2014، سيستمر في التأثير في السياسات الاقتصادية للدول، وخصوصًا تلك التي تعتمد أساسًا على صادرات السلع الأولية والنفط، وقد تشهد استمرارًا في السياسات التقشفية، قد تنعكس على ثقة المستهلك ونمو الاستهلاك الداخلي.

إضافة إلى تأثير أسعار النفط، من المتوقع أن تشهد الأسواق العالمية عددًا من الصدمات الاقتصادية العام الحالي، ففي بريطانيا التي تقبل على مفاوضات صعبة مع الاتحاد الاوروبي من المتوقع أن تنعكس تعقيدات الخروج من الاتحاد الأوروبي على سلسلة إنتاج السلع وتوريدها، وقد تتعاظم في حال عودة الإسترليني إلى الارتفاع مجددًا هذا العام والتعافي من خسائره أمام الدولار العام الماضي. من جهة أخرى، ما تزال المخاوف حول مستقبل الاتحاد الأوروبي واليورو تعزز قلق المستثمرين حول استقرار الاقتصادات الأوروبية، خصوصًا مع بداية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبروز البرامج السياسية والاقتصادية الشعبوية لأحزاب اليمين الأوروبية والشكوك حول مستقبل أزمة الديون في اليونان.

ولا يمكن الحديث عن المخاطر المتعلقة باستقرار الاقتصاد العالمي، من دون الحديث عن سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاقتصادية والسياسية التي ما تزال دول العالم تتلمس خطوطها العريضة، حول مستقبل اتفاقات التجارة العالمية والعلاقات الدولية التي ستؤثر حتمًا في نمو التجارة العالمية، خصوصًا في آسيا. من جهة أخرى، من المتوقع أن تشهد المدن الصينية تقلبات إضافية في تكاليف المعيشة مع استمرار السياسات الحكومية في دعم الإقراض للقطاع الخاص، والشركات شبه الحكومية، وسيؤدي استمراره إلى تراجع الاستهلاك المحلي خلال العامين المقبلين، وسيشهد من ثمّ، تراجعًا إضافيًا في قيمة العملة الصينية أمام الدولار.

في النهاية، وفيما لا تزال الاقتصادات الناشئة مسؤولةً عن القسم الأكبر من نمو الدخل والطلب العالمي، فمن المتوقع أن تشهد هذه الدول ارتفاعًا نسبيًا في تكاليف المعيشة على المدى الطويل، بما يتلاءم مع ارتفاع أسعار السلع الأولية عالميًا والنمو الاقتصادي في تلك الدول. أما على المدى القصير والمتوسط، فما تزال التقلبات الاقتصادية وأسعار العملات تحدد بشكل كبير ارتفاع أو انخفاض تكاليف المعيشة، ومع استمرار حال الترقب وضبابية مستقبل الاقتصاد والاستقرار العالمي؛ فمن المتوقع أن تشهد الدول الناشئة تذبذبا سريعًا في تكاليف المعيشة، تختلف شدته بحسب الظروف الاقتصادية والسياسات المالية والنقدية لتلك الدول.




المصدر