الاقتصاد الروسي: هل يتحمل أعباء “دولة عظمى”؟!


محمد محمد

تمكّن فلاديمير بوتين من إنقاذ روسيا من الكارثة التي حلت بها في عهد بوريس يلتسين (1991 – 1999) فقد استطاع بوتين، الضابط السابق في الـ “كي جي بي” السوفييتية، وقف التردي الاقتصادي والتدهور الحاد في الخدمات ومستوى المعيشة والمعدلات الكبيرة في التضخم والبطالة والفقر وأعاد للدولة دورها المنحسر وحجّم دور الجريمة المنظمة (المافيا) بعد أن تغلغلت في معظم نواحي الحياة.

حكم بوتين روسيا بقبضة حديدية مغلّفة بقفّاز حريري، ونجح في إنعاش الاقتصاد مستفيدًا من ارتفاع أسعار النفط؛ تحسنت الأوضاع الاجتماعية، وأعاد بناء القوات المسلحة، وطوّر الصناعات العسكرية وأحبط، عام 2008، طموحَ جورجيا بالانضمام إلى الحلف الأطلسي، وأفشل، بالقوة، تمددها “الجيوبوليتيكي” في مقاطعتي جنوب أوسيتيا وأبخازيا. خدمت إنجازاته في الاقتصاد والسياسة طموحاته الإمبراطورية وبدا قريبًا من تحقيق حلمه الأصيل باستعادة “أمجاد” روسيا القيصرية والسوفييتية، تحالف مع الكنيسة الأرثوذكسية، وعزز شعبيته بسياسة “شعبوية” غازلت “العزة القومية” الروسية الجريحة.

كان بوتين متأهبًا حينما اندلعت الثورة الأوكرانية عام 2014، تدخل سياسيًا وعسكريًا محاولًا إفشالها ضم شبه جزيرة القرم، بعدما عجز عن إعادة أوكرانيا إلى “بيت الطاعة”، وانتقل من دعم النظام السوري سياسيًا وديبلوماسيًا وإعلاميًا وتسليحًا، في مواجهة الثورة السورية عام 2011، إلى التدخل العسكري المباشر في 30 أيلول/ سبتمبر 2015. خدم الحظ بوتين بالتزامن بين “هجومه الاستراتيجي” ووصول أوباما إلى البيت الأبيض، نجح أوباما مرتين متتاليتين في انتخابات الرئاسية الأميركية بسبب برنامجه الانتخابي المنسجم مع قناعاته الشخصية والمخالف لبرامج الحزب الجمهوري؛ ففي السياسة الداخلية طرح أوباما “سياسات اجتماعية” لصالح الطبقات الوسطى والدنيا، وفي السياسة الخارجية حصد أوباما نتائج الاستياء الشعبي من سياسة بوش الابن “التدخلية” على الصعيد العالمي؛ استغل بوتين سياسات أوباما الخارجية وصعّد هدفه وسعى للتحول من “الأحادية القطبية” الأميركية في زعامة العالم إلى “ثنائية قطبية” يصبح فيها شريكًا، كما كان الحال زمن الاتحاد السوفييتي، استفاد بوتين من سياسة أوباما الخارجية، وعمد عمليًا، على الأقل في سورية، إلى لعب الدور الأول على الصعيد العالمي مالئًا الفراغ الذي تركه أوباما. لقد خطف بوتين من يد أوباما اثنين من مبادئ تراث الرئاسة الأميركية، مبدأ آيزنهاور: “ملء الفراغ” ومبدأ تيودور روزفلت: “تكلم بهدوء وأنت تحمل عصا غليظة” ألم يكن الأجدر بأوباما أن يتمسك بتراثه مانعًا بوتين من اختطاف ذلك التراث؟

استهدف بوتين، من التدخل في سورية، أهدافًا متعددة، منها الوصول إلى المياه الدافئة وبناء قاعدتي حميميم وطرطوس، وعقود النفط والغاز، لكن هدفه الأعلى هو لعب دور “الدولة العظمى”. مارست روسيا هذا الدور في ظل الغياب الطارئ للدور الأميركي لكن خارج الأحوال الطارئة والاستثنائية في مرحلة عابرة، هل تمتلك روسيا كل المقومات الكافية كي تصبح “دولة عظمى”؟ لا ريب أن روسيا تمتلك عددًا من تلك المقومات؛ تمتلك المساحة الجغرافية، والثروات الباطنية، والكتلة السكانية، والقوة العسكرية، وتكنولوجيا الصناعات الحربية، لكنها تفتقد البنية الاقتصادية المتينة والمتطورة، وتوأما “دولة ديمقراطية” و”مجتمع مدني” حيوي ونشط، وتتحلى نسبيًا بمسؤوليات الدول العظمى على الصعيد العالمي، كي لا تصبح دولة معزولة أو مارقة. ما يهمنا هنا، هو البنية الاقتصادية لـ “الدولة العظمى”.

ظلت الرياح الاقتصادية، الاتجاه العام لأسعار النفط تحديدًا، تجري بما تشتهيه سفن سياسات بوتين الخارجية التدخلية حتى منتصف عام 2014 منذ ذلك التاريخ عكست الرياح اتجاهها بما لا تشتهيه السفينة الروسية، بالتزامن مع الحرب على جورجيا سجّل سعر النفط في تموز/ يوليو 2008 أعلى مستوى في التاريخ بنحو 147 دولار للبرميل، وبعد أن انخفضت الأسعار في أواخر ذاك العام، عادت وارتفعت عام 2011 لتتجاوز عتبة 100 دولار، وخلال الثورة السورية وصل سعر النفط إلى 120 دولار للبرميل، بدأ السعر بالهبوط منذ تموز 2014، واستمر الهبوط حتى انهار في بدايات 2016 إلى ما دون 30 دولارًا ثم تحسن قليلًا ليراوح ما بين 40 و  50  دولارًا، وهناك توقُّع بتحسن الأسعار عام 2017، ويشوب التفاؤل زيادة قياسية في المخزونات الأميركية بفعل تعزيز إنتاج النفط الصخري.

قبل التطرق إلى منعكسات الانهيار النفطي على المتغيرات والمؤشرات الاقتصادية الروسية، ينبغي التوقف عند الخلل البنيوي في هيكل البنية الإنتاجية وأهم نقاط ضعفها.

1 ـ الطابع الريعي: يُصنّف الاقتصاد الروسي بين الاقتصاديات “الريعية” ويُشبّه باقتصاد الدول غير المتطورة مع حفظ فارق الحجم؛ إذ يُشكّل قطاع الطاقة نحو 28 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، و30 في المئة من حجم الإنتاج الصناعي، و54 في المئة من حجم الميزانية الفدرالية، ونحو 45 في المئة من حجم العملات الأجنبية الواردة إلى البلاد، حسب رئيس الوكالة الفدرالية الروسية للطاقة سيرغي أوغانيسيان. إذًا الاقتصاد الروسي يعاني من الارتهان لأسواق النفط وأسعارها، ويفاقم ذلك أثر العقوبات الخارجية وضغوطها.

2 ـ افتقاد التنوع والحيوية: كما يعاني الاقتصاد الروسي من ضيق قاعدة المشاريع المتوسطة والصغيرة التي تمنح الاقتصاد حيويته وتنوعه، فقد بيّنت مجلة “تايم” عام 2015، اعتمادًا على أرقام صندوق النقد الدولي، أن مساهمة المشاريع المتوسطة والصغيرة لا تشكّل سوى 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تشكّل مثيلتها في دول الاتحاد الأوربي ما نسبته 40 في المئة؛ ويُعزى ذلك إلى اهتمام الدولة بدعم الشركات الحكومية.

3 ـ تدني الإنتاجية: وفي السياق نفسه أشارت المجلة إلى ضعف مستوى الإنتاجية، فالعامل الروسي يضيف 25.90 دولار إلى الناتج القومي الإجمالي في كل ساعة عمل. في اليونان، البلد غير عالي الإنتاجية، يضيف العامل 36.20 دولار للساعة، والعامل الأميركي يضيف 67.40 دولار للساعة. ويشير ضعف الإنتاجية إلى عاملين رئيسين في الاقتصاد: الأول ضعف مستوى التقدم التكنولوجي، والثاني ضعف تنظيم وإدارة الاقتصاد الوطني ومؤسساته.

4 ـ الفساد: بيَّن، تقرير أصدره معهد “راند” الأميركي منتصف عام 2016، أن روسيا لا تزال تعاني من معدلات مرتفعة من الفساد، فمنذ ارتفاع معدلاته في تسعينيات القرن الماضي عبر عمليات “الخصخصة” وبيع (نهب) مؤسسات الدولة، لم تستطع السلطة الروسية خفض معدلات الفساد في روسيا؛ وبالتالي، فهو أحد العوامل الطاردة للاستثمارات، وبقيت روسيا تحتل موقعًا متدنيًا في تقرير الشفافية العالمي، فقد احتلت الموقع 121 بين 163 دولة في تقرير الشفافية لعام 2006، وبقي معدلها عند المرتبة 119 بين 168 دولة في تقرير 2015، وهي الدولة الأوروبية الأكثر فسادًا بعد أكرانيا.

5 ـ شيخوخة المجتمع الروسي: أبرز تقرير “راند” المشكلة الهيكلية التي تعاني منها روسيا في العقود المقبلة، وهي استمرار تقلص أعداد من هم في سن العمل، بين أعمار 20 و65 سنة، وستتراجع هذه الفئة العمرية بين عامي 2012 و2025 بمعدل 12 في المئة، وسيعني هذا انخفاضًا في معدل نمو الناتج بمقدار 7 في المئة، مقارنة بما لو بقيت قوة العمل الروسية ثابتة.

فوق تلك البنية الاقتصادية عكست رياح الأزمة النفطية اتجاهها، مترافقة مع العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية على روسيا؛ بسبب تدخلها في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم مما أدى -حسب تقرير راند- إلى سقوط الاقتصاد الروسي في الركود، ووفقًا للبنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية، فإن الناتج المحلي الإجمالي الروسي، وبعد أن تراجع بمعدل 4.2 في المئة خلال عام 2015  يتوقع صندوق النقد الدولي انتعاشًا متواضعًا في عام 2016، متبوعًا بتوقع تحقيق معدل نمو1,5 في المئة سنويًا على مدى السنوات القليلة المقبلة، أي أقل بكثير من نسبة 6.9 في المئة التي تحققت، وسطيًا، في سنوات الازدهار؛ إذ إن كافة عوامل نمو تلك الفترة قد غابت منذ 2012 انخفض التبادل التجاري لروسيا بنسبة 30 في المئة، وانخفض الاستهلاك العام بنسبة 3.6 في المئة، وانخفض الاستهلاك الحكومي بنسبة 5.2 في المائة، وانخفضت الاستثمارات الثابتة على المدى الطويل بنسبة 8.7 في المئة، وقدر تقرير “راند” أن انخفاضًا في أسعار النفط بنسبة 50 في المئة، سيؤدي إلى تراجع بنسبة 11 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي. وتبع الهبوط الحاد في شروط التجارة تدهور في أسعار صرف الروبل الروسي منذ منتصف عام 2014، وقد انخفض سعر الصرف الحقيقي للروبل بنسبة 28 في المئة، بدءًا من منتصف عام 2015.

فهل تصلح تلك البنية الاقتصادية، مع الآزمة الراهنة أو بدونها، لتشكيل قاعدة مادية متينة لـ “دولة عظمى”، وتمكينها من لعب دورها على الصعيد العالمي؟ لن نجري، هنا، مقارنة شاملة بين روسيا وبعض الدول مثل الولايات المتحدة الأميركية والصين، بل سنكتفي ببعض الأمثلة ذات الدلالة

الناتج المحلي الإجمالي:

حسب تصنيف البنك الدولي لترتيب الدول، وفق حجم ناتجها المحلي الإجمالي عام 2015، تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الأولى بقيمة 18 تريليون دولار، تليها الصين بقيمة 11 تريليون وتأتي روسيا في المرتبة الثالثة عشرة بقيمة 1.3 تريليون.

الإنفاق العسكري:

حسب تصنيف معهد استكهولم لأبحاث السلام الدولي عام 2015، تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الأولى بقيمة 596 مليار دولار، والصين في المرتبة الثانية بقيمة 215 مليار، والسعودية في المرتبة الثالثة بقيمة 87 مليار، وروسيا في المرتبة الرابعة بقيمة 66 مليار.

القواعد العسكرية المنتشرة حول العالم:

تحتفظ القوات الأميركية بنحو 750 قاعدة عسكرية في 130 دولة، تتنوّع مهامها المعلنة من القيام بالواجبات العسكرية المباشرة أو أعمال الدعم والإسناد اللوجستي أو القيام بعمليات “حفظ السلام” تحت مظلة الأمم المتحدة، بينما تنشر روسيا تسع قواعد عسكرية خارج أراضيها تتمركز ست قواعد في دول الجوار التي كانت جزءًا من دول الاتحاد السوفييتي سابقًا، أبخازيا ـ أرمينيا ـ بيلاروسيا ـ كازاخستان ـ طاجيكستان ـ أوسيتيا الجنوبية، وتقع قاعدة واحدة في فيتنام إضافة إلى قاعدتين في سورية، قاعدة جوية في حميميم وقاعدة بحرية في طرطوس

حاملات الطائرات:

تملك أميركا إحدى عشرة حاملة طائرة قيد الخدمة الفعلية، وتملك المملكة المتحدة حاملتي طائرات اثنتين، وفرنسا حاملة طائرات واحدة، ولدى روسيا حاملة طائرات واحدة متقادمة ومتهالكة.

يتضح من كل ما تقدم التحديات والمعيقات الكبيرة، كميًا ونوعيًا، التي تواجه طموحات روسيا في لعب دور “الدولة العظمى” على الصعيد العالمي بشكل استراتيجي مستدام وبعيد الأمد، فإلى متى ستستمر القيادة السياسية الروسية في إنكار الوقائع الروسية العنيدة، وتجاهل مخاطر المزيد من استنزاف مواردها واقتصادها وهيبتها، وتناسي تجربة تفكك الاتحاد السوفييتي، وعدم الالتفات للداخل الروسي والقيام بإصلاح اقتصادي وسياسي ينقذ الروس وأجيالهم القادمة؟




المصدر