مناطق “تخفيف التصعيد” .. مقدّمة لحل سياسي أم  للتقسيم؟


أثار الاتفاق الغامض أو ما يعرف باتفاق “وقف التصعيد”، الذي تم التوقيع عليه في العاصمة الكازاخية أستانا من جانب روسيا وايران وتركيا، ارتباكاً في الساحة السورية، ولاقى بشكل عام رفضاً من جانب معظم القوى السياسية والعسكرية، وسط تحذيرات من أنه يحمل في طياته مخاطر تقسيم البلاد.

وعلى غرار بداية هدن واتفاقيات سابقة لوقف الأعمال القتالية في سوريا، شهد الاتفاق منذ ساعاته الأولى فجر السادس من الشهر الجاري خروقاتٍ عدة في أربع محافظات على الأقل وهي حماة وحمص ودرعا ودمشق.

وسُجلت أولى الخروقات من جانب قوات النظام بعد دقائق من بدء سريان الاتفاق في مناطق تسيطر عليها المعارضة السورية بريف محافظة حماة الشمالي، وتحديداً في بلدة الزلاقيات، والتي تعرضت لقصفٍ مدفعي وبالرشاشات الثقيلة، تلتها اشتباكات بين قوات النظام وفصائل الجيش الحر، في إطار محاولة النظام السيطرة على البلدة، وهي محاولات تكررت لاحقاً أيضاً. كما طال القصف بلدتي كفرزيتا واللطامنة اللتين تعرضتا للقصف بالمدفعية والبراميل المتفجرة.

وفي وسط البلاد، وتحديداً في ريف حمص الشمالي، استهدفت قوات النظام  بلدة تيرمعلة بالأسطوانات المتفجرة، فيما طالت قذائف المدفعية الأحياء السكنية في مدينة تلبيسة.

وفي الجنوب، تعرضت مناطق سيطرة المعارضة في محافظة درعا البلد لقصفٍ مدفعي طال لاحقاً مناطق أخرى مثل علما، وخربة غزالة، والغارية الغربية والشرقية.

كما تواصلت الاشتباكات العنيفة في حي القابون شمال شرق العاصمة السورية دمشق بين مقاتلي المعارضة وقوات النظام السوري التي كثفت بعد اتفاق مناطق “تخفيف التصعيد” محاولاتها للسيطرة على الحي الذي أعلنت روسيا أنه مستثنى من هذا الاتفاق بذريعة وجود جبهة” فتح الشام” فيه، وهو ما نفته تماماً مصادر المعارضة.

 

مضامين غامضة

وكانت وزارة الدفاع الروسية قالت في بيان لها إن فريق عمل مشتركاً من الدول الضامنة للاتفاقية سيتولى إعداد خرائط لحدود مناطق وقف التصعيد والمناطق العازلة التي ستمتد على حدود مناطق وقف التصعيد الأربع المشمولة بالاتفاق.

وقال رئيس إدارة العمليات العامة في هيئة الأركان الروسية، سيرغي رودسكوي، إن المناطق العازلة التي تهدف إلى منع وقوع صدامات عسكرية بين الأطراف المتنازعة، ستتضمن نقاطاً للرقابة على الالتزام بالهدنة وحواجز لضمان تنقل المدنيين غير المسلحين، وإيصال المساعدات الإنسانية ودعم الأنشطة الاقتصادية.

وأوضح أن تنفيذ المذكرة سيسمح لجيش النظام بالتوجه لقتال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في شرق البلاد، مشدداً على أن القوات الجوية الروسية ستواصل دعم قوات النظام من أجل القضاء على التنظيم، حيث ستتركز الجهود على إحراز تقدم شرقي مدينة تدمر ورفع الحصار عن دير الزور، واستعادة المناطق المحاذية لنهر الفرات شرقي ريف حلب، حسب تعبيره.

في المقابل، طالب وفد المعارضة إلى مباحثات أستانا بأن يكون اتفاق التهدئة شاملاً لكل الأراضي السورية، ومتزامناً مع الحل السياسي وفق القرارات الدولية.

وأكّد الوفد، في بيان، رفضه لأية مشاريع تؤدي إلى تقسيم البلاد، موضحاً أن الخرائط المنشورة لـ”مناطق خفض التصعيد” ليست صحيحة ولن تكون مقبولة.

كما رفضت الهيئة العليا للمفاوضات خطة “تخفيف التصعيد”، واعتبرتها “مشروعاً لتقسيم سوريا”، من خلال “المضامين الغامضة” التي تحملها.

 

 

المناطق الأربع

 وفي معرض تحديده للمناطق الأربع المشمولة بالاتفاق، قال رئيس إدارة العمليات العامة في هيئة الأركان الروسية، سيرغي رودسكوي، إن أكبر هذه المناطق تشمل ريف إدلب والمناطق المحاذية (مناطق شمال شرقي ريف اللاذقية، وغربي ريف حلب وشمال ريف حماة)، ويقيم في هذه المنطقة أكثر من مليون شخص، وتسيطر عليها تشكيلات مسلحة تضم أكثر من 14.5 ألف فرد.

وإذا كانت الخرائط التفصيلية لحدود المناطق المشمولة بالاتفاق لم توضع بعد أو لم يجرِ تسريبها على الأقل، فإن المحتمل أن المقصود بالمناطق المجاورة لمحافظة إدلب هي تلك الخاضعة لسيطرة المعارضة في المحافظات الثلاث، أو أجزاء منها على الأقل. وفي كل هذه المناطق هناك وجود قوي لـ”جبهة فتح الشام”، بل لعل الوجود الأقوى في محافظة إدلب، ما يعني أن أي تطبيق للاتفاق الذي ينص على ضرورة محاربة تنظيمي “داعش” و”جبهة فتح الشام”، سوف يعني احتراباً فصائلياً. وتزيد مساحة محافظة إدلب عن ستة آلاف كيلومتر مربع بشريط حدودي مع تركيا يبلغ 129 كيلومتراً. وهي تحاذي محافظات حلب واللاذقية وحماة، وتستقبل مئات آلاف النازحين من المحافظات الأخرى، فيما فرّ عشرات الآلاف من سكانها الأصليين إلى خارج البلاد.

وتشمل المنطقة الثانية بحسب المسؤول الروسي ريف حمص الشمالي، وهي تضم مدينتي الرستن وتلبيسة والمناطق المحاذية الخاضعة لسيطرة فصائل مسلحة تضم نحو 3 آلاف فرد، ويسكن في المنطقة قرابة 180 ألف نسمة، (وهي تضم عملياً نحو 300 ألف شخص).

والمنطقة الثالثة المشمولة بالاتفاق هي “مناطق معيّنة من شمال محافظة حمص”، ويُقصد بها على الأرجح مناطق سيطرة المعارضة في ريف حمص الشمالي، مثل الحولة والرستن وتلبيسة وتيرمعلة. يقيم في هذه المناطق اليوم نحو 350 ألف نسمة، كثير منهم نازحون إليها من خارج المنطقة، من أصل نحو نصف مليون نسمة كانوا يقطنونها قبل الثورة.

وعلى غرار مناطق المعارضة الأخرى، تخضع المنطقة للحصار من جانب قوات النظام، فضلاً عن تعرضها للقصف المستمر بالطيران والمدفعية، خصوصاً بعد أن استقبلت معظم المسلحين الذين تم إخراجهم في أوقات سابقة من محافظة حمص بموجب اتفاقات مع النظام. وهذه المنطقة تُعتبر حيوية للنظام، نظراً لوقوعها بين مناطق سيطرته في حمص ومعاقله في الساحل وفي ريف حماة الغربي. وهي وإن كانت لا تشكل خطورة عسكرية على النظام، فإن موقعها يحظى بأهمية كبيرة.

أما المنطقة الثالثة، بحسب المسؤول الروسي، فهي الغوطة الشرقية، حيث يسكن قرابة 690 ألف مدني، موضحاً أن هذه المنطقة لا تشمل “القابون” الذي قال إن “جبهة النصرة” تسيطر عليه بالكامل، ومنه ينطلق منها القصف على دمشق، بما في ذلك على محيط السفارة الروسية.

وقد استطاعت قوات النظام في الفترات الأخيرة أن تقلص المساحة التي تسيطر عليها قوات المعارضة في الغوطة، بعد أن بلغت أكثر من 185 كيلومتراً مربعاً في أوج توسعها قبل عامين. ولجأت قوات النظام في الأسابيع الأخيرة إلى تشديد الحصار على الغوطة من خلال إغلاق الأنفاق التي تربطها مع منطقتي برزة والقابون الخاضعتين للمعارضة في شرق دمشق، ما تسبب في ارتفاع كبير في أسعار مختلف البضائع.

ويعني وقف القتال مع قوات النظام في الغوطة، على الأرجح، توجيه البنادق نحو “جبهة فتح الشام” وهو ما حصل أخيراً، وهذا يريح النظام.

وتقع المنطقة الرابعة في جنوب سوريا وتشمل المناطق المحاذية للحدود الأردنية في ريفي درعا والقنيطرة. وتخضع أغلبية الأراضي في هذه المنطقة لـ”الجبهة الجنوبية” التي تضم نحو 15 ألف مسلح، ويسكن في المنطقة نحو 800 ألف مدني.

والأرجح أن إدراج هذه المنطقة له علاقة بمحاذاتها لفلسطين المحتلة، إذ تتفق روسيا مع الولايات المتحدة على ضرورة تأمين الحد المطلوب من الهدوء والاستقرار في هذه المنطقة. ومن هنا برزت أخيراً تسريبات عدة عن خطط أردنية – بريطانية – أميركية للقيام بعمليات عسكرية مشتركة في هذه المنطقة، بهدف تطهيرها من تنظيم “داعش” والتنظيمات المتطرفة، ورسم قواعد صارمة للاشتباك هناك ضمن توازن لا يتيح انتصار أي من النظام أو المعارضة على الطرف الآخر. وقد سعت قوى إلى طرح مشاريع للإدارة الذاتية في مناطق الجنوب، فيما عمد النظام لأول مرة إلى إقامة “معابر نظامية” تفصل مناطق سيطرته عن مناطق سيطرة المعارضة في بلدتي خربة غزالة وداعل.

وبحسب رودسكوي، فان عدد مسلحي قوات المعارضة في المناطق الأربع يصل إلى 42 ألف فرد.

 

المناطق المستثناة

من الواضح أن هذه الخطة تستثني جميع مناطق شرق البلاد، سواء تلك التي تخضع لسيطرة تنظيم “داعش” أم لسيطرة الوحدات الكردية. وهذه المناطق تخضع تقريباً لنفوذ الولايات المتحدة التي تدعم بشكل علني المليشيات الكردية هناك، وتعتبرها الشريك الأساسي لها في محاربة تنظيم “داعش”. كما تستثني الخطة شمال سوريا الأوسط، حيث النفوذ الرئيسي لتركيا، والتي تدعم مجموعات من “الجيش السوري الحر” إضافة للمكوّن العربي والتركماني، بما يضمن عدم اتصال الكانتونات الكردية ببعضها بعضاً. يضاف إلى ذلك، غرب حلب، حيث القصف مستمر، ودمشق ومحيطها والمناطق المحاذية للبنان من الزبداني إلى القصير حيث يوجد حزب الله وإيران.

وبحسب عضو القيادة العسكرية في المنطقة الجنوبية أيمن العاسمي، فان أخطر ما في الخطة هو قضية المعابر بين مناطق النظام والمعارضة، والتي قد تكون مقدّمة للتقسيم في حال طال الوضع الراهن، وتراجعت فرص الحل السياسي، خصوصاً أن هذه المعابر ستكون خاضعة لقوى أجنبية وهم بشكل أساسي الروس والإيرانيون والأتراك. واعتبر العاسمي أن عدم شمول الاتفاق كل المناطق السورية يعدّ بمثابة قنابل موقوتة قد تنفجر في أي وقت وتطيح بالخطة كلها.

 

خطط النظام

 والواقع أن أية قراءة سريعة لسلوك النظام قبيل وبعد الإعلان عن الاتفاق تشير الى أن شريكيه الروسي والايراني كانا حريصين على عدم تضمين الاتفاق أي شيء يعرقل خطط النظام للسيطرة على المناطق التي كان يعمل من أجل السيطرة عليها قبل الاتفاق، خاصة تلك الموجودة في محيط دمشق وريف حماة الشمالي.

وبحجة وجود جبهة “فتح الشام” فيه، واصل النظام هجومه على حي القابون شمال شرق دمشق والذي يبعد نحو 4 كلم فقط عن مركز المدينة، بهدف السيطرة على الحي والأحياء الأخرى المجاورة التي انطلقت منها مطلع قبل حوالي الشهرين فصائل المعارضة للهجوم على دمشق ووصلت الى حي العباسيين.

وتسعى قوات النظام في هذه المرحلة إلى فصل حي القابون عن حي تشرين الذي يقع إلى شماله، حيث تقول إن عدة مئات من الأمتار فقط باتت تفصل قواتها الموجودة في محطة الكهرباء عن تلك الموجودة غرباً.

ونفت فصائل المعارضة وجود أي عنصر يتيع لهيئة تحرير الشام داخل الحي، مؤكدة أن النظام يريد السيطرة على الحي لإبعاد مقاتلي المعارضة عن العاصمة، وليس لأي سبب آخر.

والواقع أن ما يجري اليوم في الأحياء الشمالية الشرقية للعاصمة شبيه بما جرى في منطقة وادي بردى مطلع العام الحالي في اليوم التالي لتوقيع اتفاق وقف النار في أستانا أيضاً، حيث واصلت قوات النظام وبغطاء جوي وسياسي روسي، الهجوم على قرى الوادي بزعم وجود “جبهة تحرير الشام” فيها. ورغم بطلان زعمها آنذاك كما هو زعمها اليوم بالنسبة لحي القابون، فقد تمكنت في النهاية من تهجير أهالي ومقاتلي الحي إلى إدلب، والسيطرة الكاملة على نبع الفيجة ومجمل قرى الوادي.



صدى الشام