علمانية متسلطة أم علوية سياسية


رعد أطلي

اعتاد المفكر الراحل الدكتور صادق جلال العظم أن يخلق جدلًا ثقافيًا وسياسيًا في ما يطرحه من مواضيع شائكة، استمدت قوتها دائمًا من أنها موضوعات قفز الجميع من فوقها، وتجاهلها على الرغم مما لها من تأثير مخرب في البنى والمجتمعات السورية والعربية عمومًا، ابتداء من ذهنية التحريم وانتهاء بمصطلح العلوية السياسية. لاحق العظم دائمًا خوفنا من أنفسنا قبل كل شيء، ومن صورتنا التي لا نرغب في أن تسقط في مجتمعاتنا عند الخوض في ما يخوض فيه.

أحدث مصطلح العلوية السياسية، وما يندرج تحته من وجود نظام طائفي في سورية، جدلًا كبيرًا حول ماهية نظام الأسد، وهل هو طائفي “علوي” أم أن الأسد استغل الطائفة ولم يكن هو بذاته يعترف بنظام طائفي؟

إنّ ما يهم، عند دراسة طبيعة نظام ما، هو الممارسات والسلوكيات وشكل العلاقات ومواضع صنع القرار التي تميز هذا النظام، أي النتائج وليس الدافع المرتبط بالنية والتراث، ويرى البعض أنه لا يمكن تعريف نظام الأسد بالنظام الطائفي؛ لأن السلطة فيه لم تنتج من قرار طائفي أسس لإنتاجها بالأصل، أي أن الطائفة العلوية لم تكن فاعلة سياسيًا كالطائفة المارونية والدرزية على سبيل المثال قبل مجيء الأسد، وقبل البعث الانتقالي، إلى السلطة.

لم يكن العلويون جماعة متماسكة سياسيًا، إذ إنها تفتقر إلى أسس قوية من حيث نسب التعليم وكم الأموال وبنك القوة، ولا داعم لها خارجيًا كما كان لغيرها من أقليات في سورية؛ لتتبنى فعلًا سياسيًا على مستوى الجماعة، ولعل ما طرحته المسألة الشرقية من اتفاقيات حماية للأقليات في الدولة العثمانية لم يكن من دون دلالة، فكان المسيحيون الكاثوليك والموارنة من حصة الفرنسيين، والدروز من حصة الإنكليز، والأرثوذكس من حصة الروس، بينما لم يكن للعلويين أي جهة خارجية تفرض حمايتها، علمًا أن الأقلية العلوية في الدولة العثمانية حينئذٍ أكثر عددًا من الأقلية الدرزية والمسيحية.

كل هذا لا يمنع أن اختلاف المذهب عن المذهب الرسمي السني للسلطة الرسمية وانتشار الفقر والجهل واستغلال الملاك والعزلة الكبيرة للعلويين، كان يخلّف لديهم شعورًا حادًا بالهوية الخاصة، وأنهم -وهذا طبيعي- دائمًا ما تطلعوا إلى منقذٍ يرفع عنهم الظلم كغيرهم من رعايا السلطنة حينذاك، ومع دخول الفرنسيين وقيام ثورة صالح العلي، بات للعلويين تعريف جديد ضمن الجماعة السورية، وليس هم فحسب، بل كل المكونات الأخرى، ومع نشوء دول الانتداب ضمن سورية، سعت فئات من العلويين لترسيخ تلك الدولة والإبقاء على الانفصال عن سورية  (وهذا أيضًا لم يكن حكرًا عليهم، فحتى في دولة حلب كانت هناك فئات تفضل الإبقاء على حلب منفصلة عن دمشق)، ولكن أتت قضية إسكندرون لترجح كفة الداعين إلى لقاء في الكيان السوري على أن الجميع هذه المرة (السوريون وبشكل أخص العرب) خُدِعوا من القوى الكبرى. على أي حال لا يمكننا القول إنه عبر تاريخ سورية أو المنطقة، قبل ستينيات القرن الماضي كانت هناك طائفة سياسية علوية يمكن ضمن ديناميتها ومفاعيلها أن تنتج علوية سياسية.

جاءت العلوية السياسية بطريقة معاكسة، أي إنها لم تعتمد على ذلك الهدف والوعي السياسي المشترك لجماعة ما وعلى المستوى الاقتصادي والثقافي المعين الذي يحولها إلى “قوم”، حسب ياسين الحافظ، يسعى لأن يكون متمايزًا من أقوام غيره لفرض سلطته على سورية، أو تحقيق غاية سياسية في الجماعة، وإنما تولدت عن السلطة التي سعت لتشكيل “قوم علوي”، والسلطة هنا، باختصار هي شخص حافظ الأسد.

لم يكن حافظ الأسد طائفيًا أو ميالًا إلى الطائفية، حسب سيرته قبل الوصول للسلطة ضمن اللجنة العسكرية، إذ إنه في الأربعينيات نشط ضمن الأحزاب النشطة في سورية. ولم يجتذب حزبٌ، يدعى إصلاح الريف العلوي الذي كان يركز على أبناء الطائفة لتفعيلهم سياسيًا، حافظ الأسد الذي اجتذبه الأنطاكي وهيب الغانم أحد النازحين من اللواء وأحد تلامذة الأرسوزي وهو عضو في أول مكتب تنفيذي لحزب البعث، إلا أن الأسد، بعد وصوله إلى السلطة، سعى لتشكيل نمط من العلاقات في بنية السلطة، تحافظ له على استمرارية حكمه وضمان الولاء المطلق له، وقرر باعتماده على بنيته الأهلية تفعيل الطائفة العلوية سياسيًا.

لم يكن نظام الأسد علمانيًا، فالعلمانية التي تعني فصل الدين عن الدولة لا تعنيه بفصلٍ شكلي، يرفع مصادرة “الحق الإلهي” للسلطة، وإنما فصل ما تعنيه الامتيازات المتولدة لجماعة ما عن ذلك “الحق الإلهي”، وبالتالي إسقاط الامتيازات التي تمنح جماعة ما أحقية في حكم وإدارة شؤون المحكومين على أساس ثابت، سواء كان بشريًا أو فوق بشري، ورأينا أن العلمانية طورت نفسها مرارًا في ظل نشوء الدول القومية والسيادة الشعبية بعد فصل الدين، وكلما ظهرت مفرزات عن عملية الحكم تؤسس لأيديولوجيات تمنح الامتياز لجماعة ما ضمن الشعب للتسلط عليه طورت العلمانية نفسها حتى وصلت إلى ما نراه اليوم من قيم المواطنة التي تعد إلى أرقى أشكال العلمانية، في حين أن الأسد منذ مجيئه أوجد مؤسسات جديدة، تتناسب مع النظام الطائفي الجديد الذي يعتزم بناءه من خلال المؤسسات الأمنية والميليشيات العسكرية الموازية للجيش، إضافة إلى كانتونات معينة بناها للعلويين في المدن الكبرى، وضبط عملية الجهاز البيروقراطي بالكامل عن طريقهم إما بالطريقة المباشرة، أو عن طريق الأجهزة الأمنية المسؤولة عنها.

ولأن العلوية السياسية تولدت من السلطة، فهذا يعني أنها لم تكن متأصلة بكافة مضامينها في الوعي الجمعي لدى العلويين، أي أنهم طائفة متمايزة تملك تاريخًا متفردًا لا ينتمي إلى المحيط الذي هم فيه، كما هي المارونية السياسية عند بداية تأسيسها، ولكن ترسخ في ذلك الوعي حالة من ضرورة ضبط السلطة بيد الطائفة انطلاقًا بالدرجة الأولى من حماية وجودها واستقرارها، والمستوى الجديد الذي وصلت إليه بعد البعث. ساهم في تقوية ذلك الشعور أحداث الثمانينيات وما صحبها من فتاوى، والأحاديث الاجتماعية لدى الجماعة السنية بالخصوص التي طالما ذكّرت بماضي العلويين الفقير بشيء من التحسر على ما وصلوا إليه اليوم من سطوة.

استطاع الأسد الأب ضبط هذه الشعور في المسار العام الذي خلق، لأجله تلك العلوية السياسية، مسار حفاظه على سلطته؛ فكان أقرب للمخلّص المنفصل عن تلك الطائفة، الكائن الأعلى المنقذ الذي يضع القانون ليلتزم به غيره، وبذلك ظل دائمًا خارج تلك الدائرة قادرًا على التحكم بها، في حين جاء بشار الأسد ابنًا للعلوية السياسية، موغلًا فيها، فإن كان حافظ الأسد هو “مخلّص العلويين” فإن بشار جاء علويًا متمسكًا بتلك البنية الأهلية، حيث لم يعد يقبل بالعلوية السياسية أداةً لسلطته فحسب، فسلمها إلى جانب الجيش والأمن ومرتكزات السلطة والمجتمع، فإلى حينه كان الأسد الأب قد اعتمد على السنة، وبدرجات أقل على المسيحيين في إدارة اقتصاد البلاد بما يتناسب وبقاء سلطته، إلا أنه أحاطهم بالعديد من الشركاء الضباط في القطاع الخاص أو المراقبين الأمنيين في القطاع العام، في حين أن الأسد الابن راح يصادر حتى الامتيازات الاقتصادية لصالح عائلته، وهي في النهاية علوية.

يرفض البعض أن يقر بوجود علوية سياسية في سورية؛ لأنه يرى بأن ذلك يتطلب بالدرجة الأولى مرتكزات سياسية وثقافية واجتماعية سابقة للسلطة، وأن الأسد لم يبن حزبًا طائفيًا مثلًا، ولكن هل كان حزب البعث يصنع قراراته في القيادة القطرية؟ وهل كانت أحزاب الجبهة الحزينة تصنع قرارها في مكاتبها القيادية؟ أم أن صناعة القرار الحقيقي كانت في مكاتب قادة الأفرع الأمنية. وهل واجه الأسد حربه الأولى في الثمانينات بعيدًا عن منطق العلوية السياسية، وهل واجه بشار الابن حربه هذه بعيدًا عن الإيمان بالعلوية السياسية؟

لا يمكن لأحد أن ينكر الإسلام السياسي، على الرغم من عدم التزام جميع المسلمين به، ولا يمكن لأحد أن ينكر العلوية السياسية لعدم التزام جميع العلويين بها، إلا أن هذا لا يمنع من حالة حيرة يعيشها العلوي إلى اليوم بعد ما طبق عليه -حال غيره من السوريين- هذا الكبت الهائل على التفكير الحر، حيرة وصلت إلى نخب ثقافية وسياسية كأدونيس وغيره، رمتهم في تيه وهْمِ الخوف على الوجود ليستغنوا عن الحرية، وينظروا إلى ردة الفعل في تشكل منظومات راديكالية إسلامية في سورية على أنه الفعل الناجز، متناسين أو غافلين عن أن ردة الفعل أبدًا تكون من نوع الفعل.




المصدر