رقصة قبور مصطفى خليفة ماذا لو؟!


علي الكردي

سؤال (ماذا لو؟!) كان مفتاح رواية “رقصة القبور” للكاتب السوري مصطفى خليفة، صاحب رواية “القوقعة” التي باتت من أكثر الكتب مبيعًا وشهرةً في السنوات الأخيرة؛ كونها سبّاقة في الكشف بجرأة، عن جرائم نظام الاستبداد السوري المروّعة، في ذلك المعتقل الصحراوي الرهيب.

يروي خليفة حكاية عمله الجديد بالقول: “تشكلت فكرة الرواية على وقع صوتين: صوت السياط وهي تنهال على أجساد البشر، وصوت هؤلاء البشر وهم يصرخون ألمًا، عندما تنهال عليهم السياط”.

يظن القارئ –بعد سطور تلك المقدمة– أنه أمام وجبة أكثر هولًا، وربما رعبًا، عمّا كشف عنه خليفة في قوقعته؛ لكنه يكتشف، بعد التوغل في قراءة النص، أن الأمر ليس كذلك. صحيح أن تيمة التعذيب وآلامه داخل المعتقلات لم تغب كليًا، إلّا أن جوهر المقاربة، في نصه الجديد، يرنو إلى شيء آخر تمامًا، حيث تذهب الرواية إلى مساءلة التاريخ البعيد، والقريب. تمزج –عن قصد– بين الأزمنة والأمكنة. وفي هذا السياق، لعب الخيال الطليق للكاتب -بحرية أتاحها لنفسه- الحفر في الطبقات المتراكمة لبنية روايته على الصعيدين: الفني والفكري.

السؤال الافتراضي: “ماذا لو؟!”، والإجابة عليه هو ما أتاح للكاتب أن يترك العنان لخياله، كي يبحر كما شاء في التاريخ البعيد والقريب، “لكن ليس التاريخ كما حدث فعلًا، أو كما كُتب، وإنما كما كان يمكن أن يحدث أيضًا”.

يتساءل خليفة: ماذا لو مات هتلر، لسبب ما، قبل نشوب الحرب العالمية، أو ماذا لو لم يوجد أصلًا؟! ويضيف: في العام 1930، وهي السنة التي قيل إن حافظ الأسد وُلد فيها، كان معظم أطفال سورية يموتون نتيجة الفقر والجهل وانعدام الرعاية الصحية. ماذا لو مات حافظ الأسد طفلًا آنذاك؟ أو ماذا لو لم تلده أمه أصلًا؟! ماذا لو؟!. هل تجيب الرواية عن تلك الأسئلة الافتراضية، أم الأمر مجرد ذريعة، لقول ما أراد الكاتب قوله، دون قيود تحد من إمكانية القول؟!

أعتقد أن الكاتب واجه امتحانًا صعبًا، في أثناء الشغل على روايته الثانية، بعد أن حظيت روايته الأولى “القوقعة”، بما حظيت به من اهتمام وأضواء، أحاله البعض إلى موضوعها، أكثر من أدبيتها؛ وبالتالي انتظر كثيرون عمله الثاني للحكم عليه، من الناحية الفنية والإبداعية، ويبدو أن خليفة كان يدرك حجم المسؤولية، والتحدي الذي يواجه عمله الثاني الذي رأى النور بعد ثمان سنوات من صدور عمله الأول.

هل استطاع خليفة كسب الرهان، وتجاوز ثقل نجاح عمله الأول، والإضافة إلى رصيده الإبداعي في العمل الثاني؟! ربما من السابق لأوانه الإجابة عن هذا السؤال. لكن بالإمكان القول: إن خليفة “حكواتي” من طراز خاص، يتمتع بخيال خصب، سمح له بتوظيف معارفه، ومخزونه الثقافي، وخبرته الحياتية وتجاربه الإنسانية العميقة في خدمة نصه الإبداعي وإغنائه، ليس بالأفكار فحسب، بل بالحس الإنساني الرهيف، وعمق المشاعر، وإيقاعات الحياة النابضة بالرغبات، والتناقضات، وقلق الأسئلة، والتردد، والإقدام… باختصار استطاع خليفة أن يحبك خيوط عمارته الفنية بإحكام، ويبني شخصياته الروائية باقتدار، ويكسوها باللحم والدم، ونبض الحياة، على الرغم من كونها شخصيات افتراضية، تمامًا، كما الأمكنة التي تتحرك في فضائها. إذ ليس ثمة مكان في الشمال السوري يدعى (الخالدية)، بوصفها المسرح الأساسي لأحداث الرواية، لكن هناك الكثير من الشبه بينها، وبين أماكن واقعية يتعايش فيها خليط من الديانات والطوائف والقوميات: إسلام، مسيحيون، عرب، أرمن، تركمان، كرد…إلخ.

الجميل في هذه الرواية تلك الروح الملحمية، النابعة من التتّبع التاريخي للجذور العائلية الافتراضية، للشخصية المحورية في الرواية: عبد السلام آل الشيخ. يعود الكاتب بنا إلى ما قبل الإسلام، حيث الجد الأول لعبد السلام. زعيم بني مخزوم. الوليد بن المغيرة. زعيم قريش وجد خالد بن الوليد الذي تحدّر من نسله الخوالد. لكن الكاتب لم يذهب إلى التاريخ عبثًا، بل أراد أن يستنطق هذا التاريخ، ويحفر في طبقاته المتراكمة، كي يصل إلى الراهن الذي نحن فيه، بمآسيه، ومذابحه، وأهواله، وقد أتاحت له خدعته الروائية الماكرة التنقّلَ بيسر وسهولة بين الماضي والحاضر، بين التاريخ والراهن، ليكشف أن هذا من ذاك، والتاريخ حلقات منفصلة في الظاهر، لكنها متصلة من حيث الجوهر، حيث حيازة الثروة والمال، وشهوة الزعامة والسلطة للممالك والدول والجماعات، لا تستتب لأصحابها إلّا بدعمها بقوة السلاح، والأفكار الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو القومية. الأمر الذي يفسّر التاريخ الدموي، ماضيًا وحاضرًا، المليء بالاقتتال، والمذابح، والعنف، والمظلومية.

هل يمكن أن نصنف هذه الرواية في إطار “الرواية التاريخية”، أو “الفانتازيا التاريخية”؟ إذا دققنا في سرد الحكايات، التي تتناسل من بعضها على لسان الراوي، أو لسان الشخصيات التي كان يصغي إليها، نجد أن الكاتب اتكأ على الكثير من الأحداث التاريخية التي جرت فعلًا في الماضي، أو الحاضر القريب، لكن ليس كما جرت بصورة مطابقة للواقع، وإنما بعد تجريدها، والتخفّف من حمولتها التوثيقية، كي يسهل عليه توظيفها لخدمة رؤيته النقدية في محاكمة التاريخ المليء بالمجازر الدموية الطائفية والمذهبية التي هي، في جوهرها، صراع على السلطة، منذ صدر الإسلام، مرورًا بالدولة الأموية، والعباسية، وتشرذمها، وصولًا إلى الدولة العثمانية، مع الإشارة إلى مذابح الأرمن وتهجيرهم، حتى الراهن الذي بدأ مع عصر الانقلابات العسكرية التي انتهت بانقلاب الجنرال الأخير (الذي لم يسمّه)، وبناء دولته الأمنية، بعد تصفية كل معارضيه. أخيرًا الإشارة الخفية إلى نمو تيار الأصولية الدينية، والغلّو، كردة فعل على الاستبداد السلطوي، وتراكم المظلومية.

لا تخلو الرواية من بعض المشاهد (الإيروتيكية) التي جاء بعضها في سياق مقنع، أضاف جمالية للبناء الروائي؛ بيد أن بعضها الآخر كان نافرًا، وغير مقنع. ولا سيما مشاهد زوجة عبد السلام الأرمنية، التي راحت –بعد انفصالها عن زوجها، وخلافها السياسي معه–  تطارد شبانًا صغارًا، لإرواء غريزتها الجنسية، ثم اكتشافها ميولها المثلية أثناء وجودها في السجن. لم أجد في الحقيقة معنى، أو دلالة ما للتحوّل الذي طرأ على مصير تلك الشخصية، من مناضلة معارضة، وزوجة صارعت من أجل الارتباط بزوج من طائفة أخرى، وأصبحت أمًا لثلاثة أبناء، إلى امرأة متهتكة لا تتحكم بميولها الجنسية، إلاّ اللهم إذا أراد الكاتب الإشارة إلى تحوّل أولادها الذين انفصلوا عنها في طفولتهم، رغمًا عنها، كي يتربوا تربية دينية محافظة في كنف آل الشيخ، ثم تحولوا إلى أصوليين متشددين بوجوه متجهمة وعابسة. هل أراد الكاتب القول: إن هذا الرحم قد أنجب هؤلاء؟! ربما، طالما أن الخيال لعب دورًا أساسًا في بناء هذه الرواية، وبالتالي سمح الكاتب لنفسه بأن يستخدم سؤال: “ماذا لو؟”.




المصدر