علم نفس الإبادة الجماعية
17 مايو، 2017
عزام أمين
في الثاني من أيار/ مايو 2013، داهمت مجموعة من جيش الأسد وميليشيات الدفاع الوطني قرية البيضا التابعة لبانياس في محافظة طرطوس، وقتلت نحو مئة مدني، من بينهم نساء وأطفال، بحسب مصادر المرصد السوري لحقوق الإنسان. بينما وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 264 ضحية، واعتبرت أن ما حصل في قرية البيضا من أفظع المجازر التي قام بها نظام الأسد، وأكّد بعض أبناء المنطقة أن القرية حوصرت مدة يومين، ومُشّطت ابتداءً من الحارة الجنوبية، وجُمع الرجال والأطفال والنساء بمجموعات متفرقة، في ساحة القرية؛ ومن ثمّ تُفنّن بقتلهم حرقًا وذبحًا بالسكاكين والأدوات الحادة. هذا المشهد تكرّر عشرات، بل مئات، المرّات في ريف حماة، وحمص، وكرم اللوز، والحولة، وجديدة عرطوز، وجديدة الفضل، وداريا، ودرعا، وغيرها من المناطق السورية التي استباحها جيش الأسد وميليشياته التابعة له على مدار السنوات الست الماضية.
ربما يسأل أحدنا: ما هو شعور القاتل، وهو يُجهِز على طفلٍ بالَ من الخوف؟ كيف يتصرّف وهو يسمَع أُمَّه تتوسل وتصرخ بشكل هستيري، ومن ثم تسكت فجأة بعد أن استقرت رصاصة في رأسها؟ كيف يتصرّف المجرم بعد أن تنتهي المذبحة؟ هل يعود إلى بيته ليحتضن أطفاله ويعانق زوجته ويحدّثهم عن مدى حبه لهم؟ لماذا يحصل كل هذا الجنون البشري؟ ومن المسؤول عنه؟
قبل كل شيء، لا بد لنا من الإشارة إلى أن ما حصل في سورية من مجازر وعمليات إبادة جماعية ليس حالة سورية بحتة، وإنما هو ملمح من تاريخ البشرية للأسف، تكرر آلاف المرات، كان آخرها، وليس أوّلها، في ألمانيا النازية وإيطالية الفاشية وأمريكا اللاتينية وكرواتيا وكوسوفو والبوسنة ودارفور والعراق وفلسطين ولبنان والجزائر في أثناء الاحتلال الفرنسي، وفي مرحلة العشرية السوداء، وفي فيتنام وكمبوديا وكوريا وفي الصومال ونيجيريا ورواندا، وغيرها من المناطق التي لا يتسع هذا المقال لذكرها.
في نيسان/ أبريل 1994، على مدى 100 يوم، جرى ذبح 8000 روندي كل يوم، وهذا يمثّل أسرع معدل للقتل الجماعي في القرن العشرين، بحسب دايفد هوتون في كتابه “علم النفس السياسي”؛ وقد وصل عدد القتلى إلى 800 ألف شخص، وكان تسعون في المئة من الضحايا من التوتسي، رجالًا وأطفالًا ونساء، قُتل معظمهم بالسواطير والسكاكين.
كل الحوادث التي أشرنا إليها أعلاه يمكن تسميتها بعمليات “إبادة جماعية” ويشير هذا المفهوم، بحسب عالمة النفس السياسي كريستين مونرو، إلى أن كل عملية قتل وتدمير مقصود وممنهج للبشر، لا تكون بسبب أفعال فرديّة أو ذنوب ارتكبوها، وإنما بسبب انتمائهم إلى جماعة قوميّة، أو إثنية، أو عرقيّة، أو دينية.
وتقدم مونرو تفسيرًا مهمًا جدًا لظاهرة الإبادة الجماعية، تؤكد فيه ضرورة توفّر عدّة عوامل يمكن تصنيفها في ثلاثة مستويات:
أولًا: المستوى الديموغرافي، فلا بد من أن يكون هناك تقسيمات إثنية أو دينية أو طائفية واضحة، أي يجب أن يكون هناك مجتمع تعددي. وهذا العامل شرط ضروري، ولكنه -بالطبع- ليس شرطًا كافيًا.
ثانيًا: المستوى السياسي، فمن الضروري توافر بعض الشروط كالضائقة الاقتصادية وسوء توزيع الثروات وعدم الاستقرار السياسي، أو الاستبداد الذي غالبًا ما يُشكّل عائقًا في وجه عملية الاندماج الوطني في المجتمعات التعددية؛ وبالتالي ولادة هويّة وطنية جامعة لكل أبناء المجتمع، وتُعدّ هذه الهوية أهم سلاح لمواجهة ظواهر الطائفية والكره والتعصّب الإثني والنزعات الانفصالية؛ هذه الشروط غالبًا ما تؤدي إلى الحروب والثورات التي تحصل خلالها عمليات الإبادة الجماعية.
ثالثًا: المستوى النفسي الاجتماعي كالتصورات الذهنية والتنميط والخوف، وما إلى ذلك. ويؤكد علماء النفس الاجتماعيين أن هناك سلسلة من الخطوات يجب أن تتحقق قبل وقوع المذبحة (أو سلوك القتل) تندرج ضمن هذا المستوى “النفسي” حيث تلعب التصورات والنزاعات الثقافية أو الطائفية أو العرقية دورًا حاسمًا في حدوثها:
– أول هذه الخطوات السيكولوجية، هي ظهور أيديولوجيا تعمل على إسباغ الشرعية وتبرير الذبح الذي سيقع. فتسعى هذه الأيديولوجيا لشيطنة الآخرين (الجماعة الضحية) ورؤيتهم كخطر أو مرض بوصفهم فطريات وبكتريات وجراثيم أو حشرات مسببة للمرض، وتهدّد جسم المجتمع والوطن؛ وبالتالي يجب التخلص منهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان إعلام هتلر يصف اليهود الألمان بالطابور الخامس، وقبل وقوع المجازر في روندا كان الإعلام الرسمي على مدار الساعة يصف التوتسي بالصراصير، أما في مجتمعاتنا العربية فكلنا يذكر وصف القذافي لمعارضيه بالجرذان، وفي اليمن اعتبر علي عبد الله صالح من خرج عليه نشاز، بينما وصف بشار الأسد جزءًا من الشعب السوري “بالجراثيم” فقط لأنهم تظاهروا وعارضوه. إن عمليات الإبادة الجماعية بمعظمها كانت جزءًا من حرب مقدّسة لحماية الوطن من الأمراض أو المؤامرات الخارجية.
-الخطوة الثانية هي المماثلة مع الأفراد الآخرين من ضمن جماعتنا الذين يقتلون “سنفعل ما يفعله زملاؤنا” كي نحافظ على ماء وجهنا، وهو ما يُسمى بالانسياق للآخرين في أدبيات علم النفس الاجتماعي.
– الخطوة الثالثة تتمثل بعملية إسباغ صفة أخلاقية على ما سنفعل، وذلك من خلال عملية عاطفية مقلوبة يجب تخليص الآخر من بؤسه؛ فقتله يريحه من العذاب، وقد أشارت التحقيقات التي أُجريت مع كثير، ممن ارتكبوا مجازر في روندا أو يوغسلافيا، إلى أن قسمًا منهم اعترف بعزل الأطفال عن آبائهم، ومن ثم قتلهم كي لا يروا آباءهم يُقتلون أمام أعينهم.
– أخيرًا تأتي أهم عملية نفسيّة قبل الشروع بعملية القتل ألا وهي “تجريد الضحية من إنسانيتها” (dehumanization) وبذلك يبتعد الجلاد نفسيًا عن ضحيته، فهو لا يشبهها بشيء؛ ولذلك فإن قتلها لا يثير فيه أيّ انفعال، بل إن الضحيّة تتحمل مسؤولية ما حاق بها من مصير.
إن الميل الممنهج والمنظم لتجريد الضحايا من إنسانيتهم “آدميتهم” عملية حاضرة في جميع حالات القتل الجماعي التي عرفتها البشرية. وفي هذا الصدد يقول جيمس والر: “إن وضع الضحايا خارج دائرة واجباتنا الأخلاقية، واعتبارهم غير جديرين بالعطف تبعًا لذلك، يُزيل الضوابط الأخلاقية أمام ارتكاب البشر للعدوان. إن جسد الضحية المجرد من بشريته لا معنى له، هو نفاية، وإزالته أمر تقتضيه النظافة لا غير. وفي هذه الحالة لا يكون هناك أي إطار أخلاقي أو عاطفي يربط المعتدي بالضحية ويردعه عن القتل”.
وبناءً على ما سبق، يمكننا القول إن عملية الإبادة الجماعية تبدأ بزمن قبل وقوعها فعليًا، وغالبًا ما يكون سلوك القتل والذبح نتيجة نهائية لسلسلة من الأفعال، لا يتحمل مسؤوليتها فقط من قام بالقتل الفعلي.
[sociallocker] [/sociallocker]