الهرة السوداء


هذه هي المدينة العربية في شعر الحداثة العربي، حين كتب عبد الوهاب البياتي يقول “في ليالي الموت والخلق، وفي الأعماق، أعماق المدينة، لم تزل كالهرة السوداء… تبصق الموتى على الأرصفة الغبر السخينة”. وكان أحمد عبد المعطي حجازي كتب ديوانأ بعنوان “مدينة بلا قلب”. وفي نهاية الستينيات من القرن العشرين، تعرَّف الجيل السوري الذي كان يقترب من سن العشرين، على السياب في مقرّر التراجم للشهادة الثانوية. وقد فاجأنا السياب بمفارقات هجاء من طراز “الهرة السوداء” التي هجا بها البياتي المدينة العربية.
لكن القضية بدت عصية على الفهم، إذ كانت المدينة حلم الجيل كله تقريباً، ومن النادر أن تجد شاباً في العشرين من عمره، يخطط للبقاء في قريته. كانت الهجرة إلى المدينة تشكّل حلماً جماعياً. وقد شهدت حقبة الستينيات أكبر الهجرات الداخلية من الريف إلى المدينة. ولم تكن المدينة مركز الأعمال والأشغال والدراسة الجامعية والحلم بالتسلّق أو الصعود إلى السلطة أو إلى المال وحسب، بل كانت أيضاً، خروجاً من ريف مهمل غير متعلّم مقهور تحت وطأة قوى قبلية تنتمي إلى عصور غابرة.
كانت المدينة حلماً مغلفاً برغبات الخلاص والنجاة من حصار الوقت الريفي الميت، أو شبه الميت. والحقيقة أننا لم نجد أي تسوية مع الشعر. كان علينا أن نحفظ شعراً، ونمتحن في أبيات تناقض أحلامنا. والمفارقة هي أن معظم الصفات والنعوت القبيحة التي كان الشعراء يلصقونها بالمدينة، مخزنة في وجداننا تجاه أريافنا البليدة المهملة المتروكة على هامش الزمن.

وفي حين كان الشعر العربي يمتدح القرية، ويستعيدها كمظهر يجسّد البراءة والنقاء والطهر والطيبة، كانت الرواية العربية تقول غير ذلك. ربما سيكون من المفيد أن تدرس هذه المفارقة الغريبة في استجابة نوعين إبداعيين لـ”روح العصر”. ويمكن أن نشير هنا إلى تلك الروايات التي انتزعت القرية من هالة الجمال المحضة، لتضعها ضمن حقائق الحياة. الأرض للشرقاوي، وأيام الإنسان السبعة لعبد الحكيم قاسم، وأصوات لسليمان فياض، وغيرها من الروايات التي كان موضوعها الحياة في القرية العربية.
لا يكفي القول أن الرواية بنت المدينة (كان همنغواي قد وصف باريس بـ”الوليمة المتنقلة”)، إذ يمكن أن يأخذنا الكلام هنا إلى قول آخر هو أن الشعر الحديث ابن القرية. وهذا مغاير لواقع يقول إن معظم شعراء الحداثة العربية عاشوا في المدن، واختاروا البقاء فيها دون أن يفكروا بالعودة إلى القرية التي كانوا يمتدحونها، ويرون أنها تمثل الفردوس المفقود.
اللافت أن يكون الناقد العراقي جليل كمال الدين (وهو ناقد كان يعلن انتماءه إلى النظرية الماركسية) قد وضع كتاباً عنوانه “الشعر العربي الحديث وروح العصر” في الحقبة نفسها. وأن تكون واحدة من العلامات المميزة في الروح العصرية للشعر العربي الحديث، حسب رأيه، هي الهجوم على المدينة، والقول إنها كالهرة السوداء تأكل أبناءها، وإعلان أن الانتماء إلى القرية هو “العودة إلى الأصالة”.
هل كانت تلك هي روح العصر في شعرنا الحديث حقاً؟



صدى الشام