الثورة السورية بين التاريخ والجغرافيا


محمد أحمد الزعبي

تتمثل التعقيدات الكبيرة والأساسية التي أعطت الثورةَ السورية ثورةَ آذار/ مارس 2011 طابَعها الخاص والمميز، بالقياس إلى باقي ثورات الربيع العربي، ولا سيّما في مصر والعراق، بالقضايا الإشكالية التي كان يختلط فيها الولاء الديني بالولاء القومي بالولاء الوطني بالولاء القبلي بالولاء الطائفي، في تلك المرحلة التاريخية التي استند -ويستند- إليها الصراعُ الحالي في سورية، حيث يتداخل فيها التاريخ مع الجغرافيا تداخلًا، نشهد نتائجه المأسوية اليوم، وتتمثل بشبكة إشكالات “الجوار وجوار الجوار” الجغرافية التالية: سوريا-تركيا، تركيا-روسيا، روسيا-إيران، إيران-العراق، العراق-سورية، سورية-الأردن، الأردن-الكيان الصهيوني، وهكذا دواليك. وعندما يتداخل التاريخ في الجغرافيا، تصبح الشبكة أكثر تعقيدًا، وبالتالي أكثر إشكالًا ومأسوية، كما تشي به الحالات التالية:

1- الإشكالية التي ظهرت مباشرة، بعد وفاة الرسول (ص) في سقيفة بني ساعدة، ووصلت مداها بمقتل عثمان، ووصول معاوية بن أبي سفيان إلى مركز الخلافة، وتداخلت فيها مبادئ الدين الجديد ممثلة بالكتاب والسنّة، في المخزون الجاهلي بالنسبة للعرب، وفي المخزون ما قبل الإسلامي بالنسبة إلى القوميات غير العربية، ولا سيما القومية الفارسية (الشعوبية).

2- الإشكالية التي ظهرت في إطار خلافة بني أمية، بانقلاب معاوية على مبدأ الشورى الإسلامي ونقله إلى التوريث القبلي من قبل معاوية لابنه يزيد، وظل هذا التوريث ساري المفعول طوال الحقبة الأموية التي امتدت نحو قرن، ثم انتقلت عدواه إلى المرحلة العباسية، ثم إلى حكومات ملوك الطوائف، ومنها إلى معظم أنظمة (سايكس-بيكو) الحالية، ولا سيما القبلية منها، وأخيرًا -وربما ليس آخرًا- إلى حافظ الأسد الذي ورث سلطته السياسية إلى ابنه بشار، عند وفاته عام 2000، على الرغم من أن النظام السياسي في سورية كان نظامًا جمهوريًا ديموقراطيًا برلمانيًا.

3- الإشكاليات التي طبعت حقبة الحكم العباسي، وتمثلت بالصراع بين القوميتين العربية والفارسية، ذلك الصراع الذي افتتحه أبو جعفر المنصور بقتله لأبي مسلم الخراساني، وتابعه لاحقًا هارون الرشيد في ما عُرف بـ “نكبة البرامكة”، ومن ثم الحرب بين الأمين والمأمون والتي انتصر فيها جيش المأمون بمساعدة الفرس (بصورة أساسية) على جيش أخيه الأمين ذي الطابع العربي وقتله، مفتتحًا بذلك حقبة الإسلام غير العربي، (المعتصم وأخواله الأتراك) التي أثمرت بعد حمل دام عدة قرون اتفاقية (سايكس-بيكو) التي ما زلنا، منذ ذلك الوقت، نقطف ثمارها المرّة ونأكلها.

4- أبرز هذه الثمار المرة كان الإشكالات التي طبعت التاريخ العربي الإسلامي كله، وهي الصراع (السني-الشيعي) في طبعته الخمينية الجديدة، وتمثل المذهب السنّي فيه المملكة العربية السعودية وبقية دويلات الخليج ذات الحكم القبلي (الأوليغارشي) الموالي للغرب والمدعوم والمحمي من قبل هذا الغرب الذي كان يدعم ويحمي، على التوازي مع دويلات الخليج “العربي”، دويلة الكيان الصهيوني (إسرائيل)، بينما تمثل المذهب الشيعي (الإثنا عشري) حكومة طهران التي -على عكس المملكة العربية السعودية- أعلنت الحرب الكلامية والرمزية على إسرائيل في اليوم التالي من وصولها إلى طهران عام 1979. الأمر الذي اختلطت معه الأوراق والمواقف، وظلت هكذا مخلوطة إلى عام 2003 حيث “ذاب الثلج وظهر المرج” أي ظهر الموقف الحقيقي لثورة 1979 والذي أخفته الشعارات الكاذبة المعادية لإسرائيل والموالية للشعب الفلسطيني، وأيضًا التداخل المريب بين مبادئ الإسلام المحفوظة بين دفتي القرآن الكريم، والبعد القومي الفارسي الشيعي الذي انطلقت منه، وتستند إليه ثورة آية الله الخميني، ودولة ولاية الفقيه في طهران.

5- ثم جاءت ثالثة الأثافي (داعش)، حتى تكتمل الطبخة، على قاعدة أن “القِدر ما يركب إلا على ثلاث” (بشار حافظ الأسد، ولي الفقيه، داعش)، وبات على الثورة السورية ليس فقط أن تجابه رصاص بشار الأسد الحي، وإنما أيضًا الأضاليل والأكاذيب الطائفية التي باتت روائحها العفنة تنبعث في المنطقة كلها من طهران إلى اليمن مرورًا بالعراق وسورية ولبنان.

6- لقد ترتب على هذين الخطين المتوازيين (التاريخي والجغرافي)، بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى على ألمانيا الهتلرية وحلفائها، معاهدة (سايكس-بيكو) التي قسمت الوطن العربي إلى عدد من الدول والدويلات، تجاوز عددها اليومَ عشرين، وزاد في بعضها (دول النفط) عدد “البدون” (الأكثرية) على ضعف عدد (الأقلية) الذين يُعدّون بنظر مجلس الأمن الدولي، وبنظر القانون الدولي، هم “أسياد/ أصحاب” هذه الدويلات ومالكوها، وما على هذه الأكثرية إلاّ السمع والطاعة للأقلية! لا أحد في مشارق الأرض ومغاربها يُطالب هنا بـ “الديمقراطية” ولا حتى بحقوق الإنسان، إن ما في باطن الأرض (النفط) هو من يحكم ويتحكم بمن هم فوقها (الناس). وإن السوخوي والميراج والميغ والكوبرا جاهزة في كل زمان ومكان لمن تسول له نفسه أن يتلفظ بـ “لا”.

7- هذه الخلطة التاريخية-الجغرافية، بإشكالاتها الكبيرة والكثيرة، جعلت من الثورة السورية الحامل الرئيس لثورات الربيع العربي التي فجرها الشباب في عدد من الأقطار العربية، ويُحاول “مُربّع الشر” في دمشق وطهران وموسكو وواشنطن، وحلفاؤه في المنطقة، في أستانا بوتين، وفي جنيف دي مستورا، القضاءَ عليها، ولو كان ثمن هذا القضاء ملايين الضحايا من المدنيين، ولا سيما الأطفال والنساء والشيوخ، وهو ما نشاهده بأم أعيننا هذه الأيام، ولا سيما في ظل قرارات الفصل السادس والسابع الكاذبة الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، أو قل مجلس دول “الفيتو” الخمس، ليس فقط في سورية وحدها، وإنما في كافة دول الربيع العربي.




المصدر