نيل غوردون: الأميركي الذي قرأ فلسطين


من النادر أن يقرأ كاتب أو أستاذ جامعي وطناً بالمعنى الذي قصده ومارسه أستاذ الأدب المقارن الراحل نيل غوردون (1958-2017). وسيبدو الأمر أكثر ندرة حين تكون “فلسطين” هي موضوع القراءة. صحيح أن هناك كتّاباً وأساتذة غربيين مثل جان جينيه وروز ماري صايغ، قدموا قراءات لفلسطين وعنها، إلا أن غوردون جعل من موضوعه جزءاً من مقرّر دراسي أو “ورشة عمل” يدرس فيه طلبته قدرة الرواية، التاريخية على وجه الخصوص، على احتضان فهم عميق لتجربة تاريخية/سياسية معاشة هي تجربة فلسطين.
امتياز هذه القراءة، بل وامتياز صاحبها، أنها تتم في “المدرسة الجديدة للدراسات الاجتماعية” في نيويورك، المدرسة التي أنشأتها جماعة من المفكرين المناوئين للفاشية، تقع أبحاثها في منطقة يتقاطع فيها الفكر النقدي الأوروبي مع نظيره الأميركي بما يتضمّنه من نظريات نقدية ومناهج تأريخ. ويمكن لكل من تابع المقرّر الدراسي “قراءة فلسطين” أن يلمس فعالية هذا النهج، ويثمّن الجهد الفكري الذي قدمه الأستاذ الراحل في درسه.

فهو يتناول واقع فلسطين، وقد قضى فيها قبل ذلك ما يقارب السنتين، فيتحدّث عنها باسمها هذا، غير عابئ بالاسم الذي ألصقه بها الاستعمار الصهيوني. وحين يصل إلى الواقع الصهيوني، بدءاً بتشكله كمستعمرات حملت اسم “اليوشوف”، ثم اسم “إسرائيل”، ماراً باتفاقية سايكس/بيكو، فحرب العام 1948، ثم حرب 1967، يضع هذا الواقع تحت ضوء سؤال تاريخي وراهن مهم وهو: هل كان هذا الواقع كفاحاً من أجل الاستقرار والبقاء، أم كان مساهمة في سياسة التوسع الاستعماري؟ ويثير مقابل ذلك موضوعاً مهماً آخر؛ هل كانت هناك ثقافة فلسطينية لسكان فلسطين الأصليين قبل الاحتلال البريطاني وبعده؟ وما الذي تعلمنا إياه رواية هذه المراحل عن وقائع الحروب التي شهدتها فلسطين؟ الجِدّة في هذا النهج الدراسي تنبع من أنه ركّز على الرواية التاريخية كشاهد عيان على تجربة تاريخ سياسي معاش، بالإضافة إلى استخدام عمل أو أكثر غير روائي لإيضاح طبيعة الفهم التاريخي المتغيرة.
كما تنبع الجدّة من كون غوردون هو ذاته كما يحب أن يوصف “روائي تاريخي/سياسي”، تشرّب السياسة منذ طفولته، مثلما تشرّب مقاومة التمييز والاضطهاد خلال نشأته في ظروف معارضة الحرب الأميركية في فيتنام، وعاش في خضم عواصف المعارضة الأميركية لهذه الحرب، سواء كانت مقاومة عنيفة (مقاومة جماعة “الراصد” السرية) أو مقاومة سلمية واعية (مقاومة تجمّع طلبة من أجل مجتمع ديمقراطي).
وإذا تتبعنا مسيرة عائلته الليتوانية الأصل، وفرارها إلى جنوب أفريقيا هرباً مما تدعى “معاداة السامية” قبل الحرب العالمية الثانية، ووقوفها ضد نظامها العنصري، ثم هجرتها إلى الولايات المتحدة الأميركية وانخراطها في معارضة الحرب والعنصرية والنزعة الاستعمارية، ندرك لماذا كان خياره النهائي أن يكون صديقاً لفلسطين، لا لإسرائيل التي يضعها على صعيد واحد مع الأنظمة القمعية، مثل نظام سوموزا في نيكاراغوا، ونظام شاه إيران، وبينوتشيه في تشيلي.. إلخ، وهي أنظمة تدعمها الولايات المتحدة، كما يرى من يدافعون عن حريتهم في مختلف أنحاء العالم.
في حديث له عن مكانة أميركا في العالم، بمناسبة تحويل روايته “الصحبة التي تحافظ عليها” إلى فيلم سينمائي، رأى أن أعمق من عبّر عنها ولخصها فلسطيني من مخيم صبرا وشاتيلا التقاه حين زار هذا المخيم في عام 2011؛ قال “.. هناك دعاني فلسطيني في أواسط عمره إلى دخول مدرسة يديرها لشرب كوب من الشاي، فلسطيني عاش طيلة عمره في المخيّم، الذي هو ليس بالمكان اللطيف اليوم، وكان أسوأ في الماضي، وبخاصة خلال الحرب الأهلية اللبنانية حين حدثت فيه مجزرة على يد القوات الإسرائيلية وحزب الكتائب المدعومين من قبل بلدنا. قال هذا الفلسطيني “أنا أكره أميركا، ولكنني أحب الأميركيين” فلخص بذلك مكانة بلدنا المتناقضة الغريبة في العالم”.



صدى الشام