حزب الله اللبناني واستغلال ورقة المقاومة الفلسطينية


أحمد فايق دلول

(المقال الحائز على المرتبة التاسعة بـ جائزة حسين العودات للصحافة العربية لعام 2017).

تطرح العلاقة بين حزب الله اللبناني والمقاومة الفلسطينية كثيرًا من التساؤلات، سواءً تلك المتعلقة بدور الحزب في دعم القضية الفلسطينية، أم بعلاقاته المباشرة مع قوى المقاومة في قطاع غزة، لكن الصراع الطائفي الذي طفى على السطح مع بداية الثورة السورية، كان كفيلًا بقطع العلاقات بين حركات المقاومة الفلسطينية السُنية وحزب الله الشيعي، إلا أنَّ هذا الأخير أبقى على شعرة مُعاوية، فضلًا عن أنَّه لم يتورع عن لعب دور الوساطة بين القيادة السياسية الإيرانية وقيادة المقاومة الفلسطينية، فحرص على علاقاته بالمقاومة الفلسطينية، وظهر ذلك الأمر في كثيرٍ من المحطات التاريخية، التي سنوردها تباعًا.

وما يجب تأكيده في البداية أنَّ المدخل الصحيح لقراءة حزب الله، يأتي من خلال بيانه الأول، في 19 شباط/ فبراير 1985، الذي أعلن فيه التزامه “بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة”. ومن ثم؛ فإن تفسير السلوك السياسي والعسكري يجب أن يخضع لهذا المنطق التحليلي، وهذا يعني -بالضرورة- أنَّ حزب الله أداة وليس كيانًا منفصلًا بأيِّ حال من الأحوال، ولا مشروعًا خاصًا له، وإنَّما يأتي عنصرًا فاعلًا في المشروع الإيراني الذي يناطح دول الوطن العربي والشرق الأوسط.

* * *

بدأت علاقة حزب الله اللبناني بالمقاومة الفلسطينية أوائل سبعينيات القرن الماضي، وذلك بناءً على اقتراحٍ من السيد موسى الصدر لتشكيل “كتائب الإمام علي لتحرير فلسطين”؛ لتعمل تحت إشرافه، لكنَّ ياسر عرفات، زعيم حركة فتح الراحل، اقترح تسمية الكتائب باسم “أفواج المقاومة اللبنانية – أمل”، وافتُتح أول معسكرٍ لتدريب عناصر الحركة؛ بمساهمةٍ وإشرافٍ وتدريبٍ من حركة فتح. وأُعلنت ولادة الحركة في 6 تموز/ يوليو 1975، بعد انفجار لغمٍ في أحد معسكرات التدريب في البقاع.

تبـخَّر الجميل الذي قدمته المقاومة الفلسطينية -متمثلة بحركة فتح- لحزب الله، ولم يعد له أي أثرٍ، بل وأُصيبت بطعنةٍ في الخاصرة عندما اشترك عناصر حزب الله -قبل الانشقاق عن حركة أمل- إلى جانب الكتائب اللبنانية، وعلى مرأى ومسمع القوات الإسرائيلية؛ في قتل الفلسطينيين بدمٍ باردٍ في مذابح مخيمي صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة في أيلول/ سبتمبر من عام 1982.

عملت المقاومة الفلسطينية جنبًا إلى جنبٍ مع “المقاومة” اللبنانية في طرد الاحتلال الإسرائيلي من جنوبي لبنان، وانسحبت إسرائيل فعليًا في 25 أيار/ مايو 2000، أي: قبل الموعد المحدد للانسحاب بنحو شهرين، وذلك لقطع الطريق على نظام الأسد من جني ثمار الانسحاب. وفي تلك المرحلة عانت المقاومة الفلسطينية كثيرًا، وتجرَّعت مرارة التعامل الخشن مع حزب الله؛ إذ أُقصيت من مواقع القيادة، ونُحّيت من المشهد الإعلامي، ومُورست العنصرية والطائفية بحقها.

تعهَّد حزب الله، في أثناء الاتفاق على عملية تبادل الأسرى مع إسرائيل عام 2005، بمنع المقاومة الفلسطينية من اتخاذ جنوبي لبنان منطلقًا لعملياتها، وتجسيدًا لهذا الأمر؛ قال أمين سر حركة فتح في لبنان حينذاك، سلطان أبو العينين: “لقد أحبط حزب الله أربع عمليات للفلسطينيين خلال أسبوع وقدَّمهم للمحاكمة … نعيش جحيمًا منذ ثلاث سنوات، ومللنا الشعارات والجعجعة”.

لقد كان الأمين العام السابق لحزب الله، صبحي الطفيلي، محقًا حينما وصف المقاومة التي -يمثلها حزب الله- بأنها تقف الآن حارس حدود للمستوطنات الإسرائيلية، بينما يُلقي عناصرها القبض على من يحاول القيام بأيِّ عملٍ ضد الإسرائيليين، ويُسام بأنواع التعذيب في السجون.

وعن أيِّ مقاومةٍ لبنانيةٍ نتحدث في وقت تمتدح فيه صحيفة “هاآرتس” العبرية الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله؛ بسبب محافظته على الهدوء في شمال إسرائيل، بدرجةٍ تفوق جيش العميل أنطوان لحد!

* * *

بعد ما تركته حرب تموز/ يوليو 2006 من دمارِ كبيرٍ في الضاحية الجنوبية، وغيرها من مدن لبنان؛ أبدى حسن نصر الله ندمه واعتذاره للشيعة في لبنان؛ لأنَّه جرَّهم إلى الحرب مع إسرائيل، وقال حينئذ: “لو كنت أعلم أنَّ إسرائيل ستردُّ على خطف وقتل جنودها بشن حربٍ على لبنان، لما أمرت بتنفيذ عملية الخطف”. والتزم الحزب منذ ذاك الموقف باعتذاره وحافظ محافظة كبيرة على هدوء الحدود الشمالية.

كان من الطبيعي جدًا أن يمرَّ هذا الاعتراف مرور الكرام في ظلِّ حملة إعلامية متوسطة التأثير، لكن؛ لعل أخطر ما في الأمر أنَّ الاعتراف انعكس سلبًا على المقاومة الفلسطينية، وأدركت إسرائيل حينذاك أنَّه بإمكانها -إنْ صمدت- أنْ توجه ضربةً موجعةً للمقاومة الفلسطينية، وفق ما أسماه “غادي إيزنكوت”، قائد المنطقة الشمالية، في 4 تشرين الأول/ أكتوبر 2008، بـ “عقيدة الضاحية”، ولعل هذا ما تجسَّد على أرض الواقع، وبدا واضحًا بالنظر إلى حجم الدمار الذي أحدثته، والقتل الذي ارتكبته إسرائيل في عدوانها على قطاع غزة في 2008 و2009، ولم تقبل آنذاك بإنهاء العدوان إلا عندما شعرت أنَّها حققت أهدافها.

بعد ثلاثة أعوام من ذاك التاريخ، وبالتحديد في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012؛ دخلت المقاومة الفلسطينية في جولة تصعيد عسكري مع إسرائيل، في ما عُرفت حينذاك فلسطينيًا بـ “معركة حجارة السجيل”، وإسرائيليًا بـ “عامود السحاب”، وتمكَّنت إسرائيل من ضرب مخزن صواريخ غراد التي وصلت إلى حركة الجهاد الإسلامي من حزب الله، وبذلك انتهى فعليًا دور الحزب في تلك المعركة.

بيد أنَّ المقاومة الفلسطينية كانت تتوقع صمتًا وحيادًا لحزب الله في المشهد العسكري الفلسطيني – الإسرائيلي، على الرغم من أنَّه يمتلك من العتاد العسكري خمسة أضعاف ما تمتلكه المقاومة الفلسطينية، فأخذت -من قبلُ- على عاتقها تطوير قدراتها العسكرية ما أمكن، واستطاعت ضرب بئر السّبع والنّقب في الجنوب، وصولًا إلى تل أبيب وحيفا والخضيرة وهرتسيليا في الجزء الشّمالي من فلسطين المحتلّة، وهذا تطّورٌ نوعيٌ مفاجئٌ وغير مسبوقٍ لدى المقاومة الفلسطينيّة التي نجحت في الاعتماد على جهدها الذاتي، بعيدًا من دعم حزب الله لها، ولا سيما أنَّ الحزب وقف متفرجًا، وسرعان ما تبخرت خطابات نصر الله الذي زعم فيها جهوزية حزبه لدعم المقاومة الفلسطينية.

* * *

ولم يكن يخفى على المقاومة الفلسطينية أنَّ حزب الله الذي يمثِّل إيران، وينوب عنها في لبنان، أو في علاقاته مع المقاومة الفلسطينية؛ يحاول سحب البساط من تحت أقدام الأخيرة؛ من أجل لعب دورٍ وظيفيٍ لصالح إيران لعبًا مباشرًا أو غير مباشر؛ إذ كانت إسرائيل وقتئذ تُهدد إيران بتوجيه ضربةٍ عسكريةٍ لمفاعلها النووي.

وفي أثناء اندلاع المعركة بين المقاومة الفلسطينية والإسرائيليين عام 2014؛ كان قد مضى على حزب الله أكثر من ثلاث سنوات من العمل العسكري والقمعي المنهجي، إلى جانب نظام بشار الأسد، ضد الثورة السورية، وتوجهت مقدرات من تدَّعي بأنَّها “المقاومة الإسلامية في لبنان” نحو ارتكاب جرائم الحرب، وقتل المدنيين السورين الذين يتوقون إلى الحرية والخلاص من نظام الأسد.

في تلك الأثناء تكشَّف الستار عن الموقف الحقيقي لتنظيم حزب الله تجاه المقاومة الفلسطينية، ولا سيما بعد أن رفضت “حماس” الوقوف إلى جانب نظام بشار ضد الشعب السوري، وذلك انطلاقًا من عدة حسابات، أهمُّـها أنَّ بشار الأسد كان يتخذ من “احتضان” المقاومة شمَّـاعةً لقمع شعبه، فأرادت “حماس” النأي بنفسها، وقطع الطريق على نظام بشار الذي حاول استخدامها لقمع شعبه، وقد نجحت حركة “حماس” في الخروج الهادئ من المعترك السوري، وتجنبت الوقوع في شرك النظام العلوي، وهو موقف يُحسب لها، كونها ضحت بكثير من أجل حفظ دماء الشعب السوري.

ولعل هذا ما أجبر حركة حماس على إصدار بيانٍ صحفيٍ في 17 حزيران/ يونيو 2013 طالبت فيه حزب الله بالانسحاب من سورية، والمحافظة على “بوصلة المقاومة واتجاهها”، وأكَّدت في بيانها أنَّ “القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، ومقاومة الاحتلال الصهيوني هي مهمتها الأساسية، ولا بد من الحفاظ على بوصلة المقاومة واتجاهها مهما كانت الظروف والأحوال”.

لم يكن لمخاوف حركة حماس في سورية أي معنى بالنسبة إلى حزب الله، فخطابات نصر الله تتلاءم مع كل زمان ومكان! ولم تعد مصطلحات الدفاع عن فلسطين ودعم المقاومة الفلسطينية أمرًا مرتبطًا بالاحتلال الإسرائيلي، وإنما تحوَّلت فلسطين ومقاومتها إلى طوق نجاة، يلجأ إليها السيد نصر الله في أثناء الأزمات التي يتعرض لها حزبه، ففي أثناء تورط عناصره في قمع الثورة السورية، ركزت خطاباته على استمالة الشعوب العربية السُنية، وحاول مرارًا أن يستدعي خُطبه القديمة، في محاولةٍ منه لإقناع ملايين السوريين والعرب بأنَّه يقاتل في سورية إلى جانب النظام العلوي؛ من أجل فلسطين والقدس، على حد زعمه.

لكن تلك الشعارات التي اعتاد الشعب الفلسطيني والعربي سماعها سرعان ما كشفت الوجه الحقيقي لحزب الله؛ لأن المقاومة الفلسطينية في غزة كانت تتطلع إلى من يشغل الاحتلال، ويخفف عنها الضغط؛ حتى وصل بها الأمر خلال عدوان 2014 على غزة، ودام 51 يومًا، إلى إحراج حزب الله عبر مطالبتها بفتح الجبهة الشمالية، ذلك خلال لقاء القيادي في حركة “حماس”، موسى أبو مرزوق، مع وكالة “نوفوستي الروسية”، الذي أوضح خلالها “تطلّع حماس إلى فتح الجبهة اللبنانية لنحارب معًا هذا الكيان… المقاومة في لبنان قادرةٌ على فعل كثير”، واكتفى حزب الله بتقديم الدعم المعنوي عبر بعض الخطابات الحماسية الشعبية التي اعتاد الفلسطينيون سماعها خلال ثلاثة اعتداءات صهيونية متتالية على غزة، أدت إلى دمار هائل في البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية.

* * *

ثمَّة ما يدعو إلى الاعتقاد بأنَّ قيادة المقاومة في غزة كانت تدرك أنَّ الجزء الأكبر من قدرات وإمكانات حزب الله العسكرية موجودٌ في مناطق متفرقة من سورية، وليس في جنوبي لبنان، وبالفعل؛ كان حزب الله عند حسن ظن إسرائيل، فلم يحرك ساكنًا، ولم يطلق رصاصةً واحدةً نحو الأراضي المحتلة، وأغلب الظن أنَّ المقاومة الفلسطينية حينما طلبت تدخله، كانت تسعى إلى إحراج الحزب أمام الرأي العام العربي والإسلامي، ردًا على إشارة حزب الله إلى القضية الفلسطينية والقدس خلال عملياته الانتقامية ضد الشعب السوري.

رسالة حزب الله للمقاومة الفلسطينية، في أثناء عدوان إسرائيل على قطاع غزة عام 2014، فهمتها قيادة المقاومة بوضوح؛ لأن أقصى ما فعله نصر الله هو إجراء اتصالين هاتفيين منفصلين بكل من مشعل وشلح، زعم فيهما وقوف الحزب مع المقاومة بغـزة، وأنه واثق من قدرة الفصائل الفلسطينية على “الانتصار”، وكأنَّ نصر الله أراد أن يقول للمقاومة الفلسطينية “اقلعي شوكك بيدك”، وهذا ما يُفسر الهدوء الذي يسود الحدود اللبنانية مع الكيان الصهيوني منذ سنوات، وربما هذا هو الأهم بالنسبة إلى حزب الله في الوقت الراهن.

وبعد مرور العام الخامس منذ اندلاع الثورة السورية؛ وجد حزب الله نفسه يدافع عن أمن إسرائيل دفاعًا غير مباشرٍ، بدلًا من تهديدها المباشر؛ إذ كان يقاتل الثوَّار في مرتفعات هضبة الجولان من مدينة القنيطرة، وإلى الجنوب منها، في حين اتسمت علاقته بالمقاومة الفلسطينية بنوعٍ من الجمود؛ لأنَّه لم يعد قادرًا على تزويد الأخيرة بالسلاح الإيراني، كما الحال بالنسبة للفترة بين العامين 2000 و2006؛ وهذا الأمر كان مدعاة للتساؤل عن وظيفة حزب الله وسلاحه الإيراني!

* * *

وأخيرًا؛ أكَّدت التطورات على أرض الواقع أنَّ سلاح حزب الله لحماية أمن إسرائيل، من ناحية، والمحافظة على مقدرات الحزب، وتمكينه من السيطرة على المشهد السياسي في لبنان، من ناحية ثانية، والمساهمة في ضمان بقاء بشار الأسد على سدة حكم سورية، من ناحية ثالثة. ولم تعد وظيفة سلاح الحزب تحرير جنوبي لبنان، أو تحرير فلسطين، أو مساندة المقاومة الفلسطينية، ومن هنا؛ فقد أُزيحت أقنعة المقاومة التي كانت تتستر بها العنصرية الطائفية، وخير دليل على ذلك ما نلاحظه من خلال الثمن الكبير الذي يدفعه الحزب في المستنقع السوري، وكان قد تحاشى دفعه في زمن مواجهته مع الاحتلال الاسرائيلي، فخلال حرب عام 2006، فضَّل حزب الله اللجوء إلى تحت الأرض؛ بدعوى استدراج العدو، وتوفير قدراته للمواجهة.




المصدر