on
على بعد نصف قرن
راتب شعبو
لا نهاية للأسئلة التي تتوالد في ذهن من يراجع تاريخ هزيمة حزيران/ يونيو 1967: كيف استمرت السلطة البعثية المهزومة في الحكم في سورية، حتى من دون أي تعديل من شأنه أن يمتص، ولو قليلًا، من أثر تلك الهزيمة المدوية؟ من دون استقالات أو إقالات، مثلًا، أو من دون انفتاح على الأحزاب الأخرى، أو من دون مراجعة أو تحقيق أو محاسبة.. الخ؟ بأي نوع من “الشرعية” استمرت؟ كيف واصل المجتمع السوري حياته، بعد هزيمة على هذا المستوى، من دون أن يوجد من يتبنى المسؤولية؟ بعد أن خسرت السلطة البعثية الأرض والهيبة، واستعدت للتخلي عن العاصمة، كيف كان لصحفها أن تقول بالخط العريض: انتصرنا؟ بعد أن تكشفت لعين الشعب السوري الفجوة الهائلة بين الواقع كما هو، وبين الواقع الذي كانت ترسمه تصريحات المسؤولين السوريين، العسكريين منهم والسياسيين، لماذا لم يتحرك الشعب السوري، بأي شكل، ضد السلطة التي أشبعتهم تصريحات تنم عن جهل تام، أو عن سوء تقدير، أو عن كذب صريح، وفي كل الأحوال تنم عن قدر كبير من اللامسؤولية؟
لم يحدث في سورية شيء شبيه بما حدث في مصر حينذاك، لم يخرج أي مسؤول سوري إلى الناس ليكلمهم -من موقعِ المسؤول- عن “نكسة” ألمّت بالبلد، دع عنك امتلاكه الجرأة لتبني المسؤولية وتقديم الاستقالة، كما فعل جمال عبد الناصر. بقيت الهزيمة في سورية عارًا مرميًا في الشارع، وبقيت السلطة البعثية تحمل هزيمتها وتنكرها، فهي لا تملك إزاءها سوى الإنكار والتجاهل، لأنها لا تمتلك من العمق السياسي أو الشرعية الشعبية ما يمنحها الجرأة على مواجهة الشارع السوري ومصارحته. في مصر كانت استقالة عبد الناصر بمنزلة فعل انقلابي، وكان في خروج الجمهور الواسع لرده عن الاستقالة، استعادة لشرعية شعبية كان يدرك أنه قد خسرها بفعل الهزيمة الكبرى تلك. وعلى الرغم من أن التاريخ لا يستسيغ الأسئلة الافتراضية، يمكن أن نسأل: هل كان يمكن للجمهور الذي خرج يطالب عبد الناصر، بالعدول عن قرار الاستقالة، أن يخرج مطالبًا إياه بالاستقالة لولا خروجه إلى الجمهور وتبنيه الهزيمة؟
عاملان ساهما في استمرار سلطة البعث في سورية، بعد حزيران/ يونيو 1967، على الرغم من هزيمتها المنكرة والمنكورة. الأول هو هزيمة مصر عبد الناصر. هزيمة الكبير تغطي على هزيمة الصغير. إذا كانت مصر بقوتها وثقلها العربي والعالمي قد هزمت، فإن هزيمة سورية تبدو إذن في مأمن من السؤال. من المعروف أن مصر طالبت بانسحاب القوات الدولية وحشدت قواتها كي “تكون مستعدة للهجوم إذا بدأت (إسرائيل) عدوانًا ضد أي دولة عربية”، كما جاء في رسالة الفريق محمد فوزي رئيس أركان الجيش المصري إلى الجنرال الهندي أندار جيب ريكي، قائد القوات الدولية. كانت سورية هي البلد العربي المقصود. وعرّفت مصر العدوان بأنه التدخل البري المسلح من أجل احتلال جزء من الأراضي، وليس مجرد الاشتباكات الحدودية التي كانت متكررة على الحدود السورية؛ وعليه فإن هزيمة الحامي جعلت من هزيمة المحمي ضربًا من البداهة. وهذا ما يفسر سكوت السلطة البعثية عن الهزيمة، فقد اعتبرت ضمنًا أن الهزيمة مصرية في الأساس، وأن هزيمتها ليست سوى جزء من هزيمة مصر، وأن على القيادة المصرية، وليس السورية، أن تفسر الهزيمة وأن تتبناها وتستقيل، وأن على وزير الدفاع المصري أن ينتحر، في حين يتاح لوزير الدفاع السوري أن يمهد لانقلابه خلال ثلاث سنوات.
العامل الثاني هو مزيج من العجز والتضامن. الانقلابات المتوالية منذ الانفصال، مع حملات التطهير التي رافقت كل انقلاب، أرهقت الجيش الذي كان قوة التغيير الأساسية، مع ملاحظة أن الانقلاب الأخير قبل الهزيمة لم يكن قد تجاوز عمره ستة عشر شهرًا، ولم يكن هناك ضابط في الجيش السوري من المستوى الذي يستطيع القيام بانقلاب، قادر على تبرئة نفسه من عار الهزيمة إياها. وعليه فإن أي انقلاب كان سيبدو استغلالًا للهزيمة، بما يشبه الخيانة.
الأحزاب السياسية كانت مهمشة ومقموعة على طول الخط، هذا فضلًا عن أنها تتحمل نصيبها من الهزيمة باعتبارها جزءًا من التكوين السياسي للمجتمع الذي فشل تمامًا في مواجهة “إسرائيل”. عبّر عن هذه المسؤولية العامة أكثر من سياسي سوري، منهم صلاح البيطار، كما عبر عنها بعض مندوبي الحزب الشيوعي السوري في مناقشات المجلس الوطني العام الذي عقد في 1971، خلال معالجة الأزمة الداخلية في الحزب حينها.
وعلى اعتبار أن هزيمة السلطة البعثية جاءت على يد “إسرائيل” (العدو الكامل)، فقد كان من شأن ذلك أن يثير شعور التضامن مع “السلطة الوطنية”، وأن يوحي بأن أي عمل موجّه ضد هذه السلطة، إنما هو يكمل ما بدأته “إسرائيل”. هكذا مثلًا كان تبرير أمين الحافظ لامتناعه عن القيام بأي تحرك مضاد لسلطة البعث (23 شباط) التي كانت قد انقلبت عليه وأودعته السجن، ونال حريته بسبب الهزيمة نفسها.
المحصلة أن جبن سلطة البعث حينئذ في مواجهة نفسها بعد الهزيمة، وفي تحمل مسؤولياتها المترتبة على ذلك، وإحجام قوى المجتمع، عن محاسبة السلطة المهزومة، مهد الطريق لوزير الدفاع حينئذ بأن يراكم قوته داخل الجيش بالتدريج، وأن يراكم لدى الوعي العام المحلي والعربي والدولي عقلانية كان يفتقدها الخط السياسي للحزب الذي كان يسيطر عليه صلاح جديد (الذي اتسم بالإقصائية في الداخل، والانعزالية في الخارج)، وأن يستولي على السلطة بعد ثلاث سنوات، بوصفه منقذًا لسورية من سلطة متخبطة، ظهرت في ذلك الانقلاب وكأنها ليست أكثر من ميت ينتظر من يدفنه.
المصدر