العلويّة السياسية.. الطائفية.. لوازم الاستبداد
4 حزيران (يونيو - جوان)، 2017
حمزة رستناوي
في العموم، يكره البشر -من غير المُنتفعين بالاستبداد- النظامَ الاستبدادي، وسيغدو أي شِعار أو حُجة أو أداة، يُمارِس من خلالها هذا النظام استبدادَه، مَكروهًا بشكل مرافق، كمنعكس شرطي لدى المحكومين، وهو ما يعرف في علم النفس بمصطلح التحويل الاستبدالي الشرطي، قد لا يكون هذا بالتفكير السليم أو المثالي، ولكنَّه عمليًا هو الغالب. وبتطبيق هذه المقدمة على النظام السوري الذي استخدم القومية العربية و”العلويّة السياسية” كأدوات للتطبيق في حالة العلويّة السياسية، أو كشعارات للتبرير كما في حالة القومية العربية، سوف نحصل على ما يلي:
أ- إضعاف البعد العربي للهوية الوطنية السورية، عند العرب السوريين، وللمقارنة فقط في انتخابات 1954، وهي من أكثر الانتخابات ديمقراطية ونزاهة في التاريخ السوري، حاز حزب البعث على 22 نائبًا في المرتبة الثانية، بعد حزب الشعب 30 نائبًا، بينما حاز الإخوان المسلمون على 4 مقاعد من أصل 140 مقعدًا [1] بينما أصبحت كلمة “البعثي” في زمن حكم حزب البعث “الحزب القائد للدولة والمجتمع”، مرادفة للانتهازية والوصولية، أو صفة يكتسبها الفرد السوري قسرًا من غير اختيار ليتجنّب التمييز الحكومي ضدّ غير البعثيين!
ب- انكفاء الكُرد السوريين على أنفسهم، وتعريفهم بدلالة الهويِّة الكردية إلى حدٍّ كبير، نتيجة السياسات التميزية للسلطة السورية ضدهم.
ت- شرخ في الهوية الوطنية السورية ما بين: علوي/ غير علوي.. وفي مجتمع ذي ثقافة مُعتلّة أساسًا، ومع بداية الثورة / الحرب السورية، في آذار/ مارس 2011، وبتأثير مباشر لسياسات خبيثة للسلطة الحاكمة، سوف يتصدّر المشهد السوري صراع طائفي سنِّي/ علوي – سنّي/ شيعي.
مع بداية الثورة/ الحرب السورية، في آذار/ مارس2011، وانكسار حاجز الخوف، خضعت الهوية الوطنية السورية لاختبار حقيقي وقاس، وعندما يقوم أي شعب بثورة ضد نظام استبدادي مُتسلّط، من المفترض وفي الظروف الاعتيادية –بغض النظر عن انتصار الثورة من عدمها- من المُفترض أن يبقى مُوحّدًا، ولو ضمن حدود دنيا، في حال وجود هويّة وطنية راسخة ومستقرّة، وحتى في حال وجود انقسامات -وهذا أمر متوقّع في أي مجتمع- لا تكون هذه الانقسامات عادة ذات طابع عامودي على مستوى الهويّة. لقد فشل الشعب السوري حتى الآن وفي المدى المتوسط في هذا التحدّي، فجيش السلطة السورية يُقاتل بما يشبهُ أخلاق جيوش الاحتلال، كعصابات ومرتزقة ويستعين بميليشيات طائفية شيعية وافدة عبر الحدود: حزب الله – الحرس الثوري الإيراني – لواء أبو الفضل العباس – كتائب سيد الشهداء – لواء كفيل زينب (عصائب أهل الحق) الزينبيون – الحرس الثوري الإيراني.. إلخ [2]، إضافة إلى تدخّل عسكري روسي مباشر. من جهة أخرى، إنّ قوات الثوار/ المعارضين للسلطة وفي عمومهما، تُغلّب البعد العقائدي الديني الفئوي على البعد الوطني في صراعها مع السلطة، وتطرح لوطنية عقائدية سنّية تتنافى مقدّماتها مع مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية، دولة المواطنة المتساوية، ويكفى المتابع أن يستعرض أسماء فصائل وميليشيات الثوّار والمعارضين ليتبيّن ذلك: جيش الإسلام – لواء التوحيد – الجبهة الإسلامية – فيلق الرحمن – جيش محمد – جبهة النصرة – كتائب الفاروق – أحفاد الرسول – جند الأقصى – الجبهة الإسلامية – حركة نور الدين الزنكي – تجمع فاستقم كما أمرت.. إلخ.
ثمّة رأي شائع عند مثقفين سوريين ينفي وجود طبيعة طائفية للنظام السوري، بقرينة أن النظام السوري لا ينشر المذهب العلوي أو الشيعي، بل هو يعتمد المذهب السنّي رسميًا وتعليميًا، والرئيس حافظ الأسد ومن ثم بشار الأسد كانا حريصين على أداء وحضور الشعائر الدينية على الطريقة السنّية، لا بل إنّ حافظ الأسد قد أوصى بأن يكون إمام الناس في جنازته الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وهو شيخ سنّي!
تعقيبًا على ذلك نعرض إلى الملاحظات التالية:
1- النظام الطائفي لا يأخذ شكلًا واحدًا، بل هو طريقة تشكّل وصيرورة حركية احتوائية احتمالية نسبية –ربطًا بنظرية المنطق الحيوي- وبالتالي فالنُظم الطائفية لا تتطابق بل تختلف عن بعضها البعض وفقًا للسياقات الزمكانية الاجتماعية.
2- وصف أي نظام بأنه طائفي يجب أن يكون بناء على معايير موّحدة، ليست مُنحازة لفئوية طائفية دون أخرى، بما يستلزم مثلًا وصف النظام البحريني بالطائفية مثلًا.
3- أي سلطة استبدادية تستند على عصبيات عائلية أو عرقية أو طائفية أو.. إلخ أو جميعها، إنّ طبيعة النُظم الاستبدادية لا تتوافق مع حيادها تجاه الفئويات الاجتماعية والعقائدية المختلفة، لكونها -السلطة- تقوم أساسًا على الولاء الأعمى للسلطة والزعيم، وكذلك تقوم بزرع الخوف وعدم الثقة بين الفئويات الاجتماعية نفسها؛ ومن ثمّ فالنُظم الاستبداديّة لا تأخذ النظرة الفردية لمواطنيها، بمعزل عن انتماءاتهم الاجتماعية، ولذلك ليس بالمُستغرب على نظام استبدادي فاسد -كالنظام السوري- أن يتعاظم المُركّب الطائفي فيه، وخاصة عندما يمرّ بصراع يمس وجوده.
4- المجتمعات التي تَحتوي الدينَ بطريقة طائفية –وضمنًا سورية- والتي لم تُنجز حداثتها السياسية بعد، من المتوقع ومن المحتمل أن تأخذ التعبيرات السياسية فيها -وعلى رأسها السلطة- أشكالًا طائفية.
5- “الطبيعة الطائفية للنظام السوري” ليست طبيعة جوهرانية مطلقة، والأكثر دقّة هو القول بحضور البعد الطائفي للنظام السوري، كعصبية سياسية اجتماعية -بالمعنى الخلدوني- تُعزِّز بقاء النظام، وليس كأيديولوجيا رسمية تتبنّاها السلطة، كما هو حال نظام ولاية الفقيه في إيران، أو في نظام دولة طالبان أفغانستان، أو بعض أنظمة الخليج مثلًا.
6- للنظام السوري صفة مُركّبة ويشتغل على شبكة ولاءات ليست عائلية فحسب، وليست طائفية فحسب، وليست اقتصادية فحسب، وليست سياسية فحسب.
7- الطائفية هي صفة للنظام والسلطة الحاكمة وليس صفة للسوريين العلويين، كما أنّ الطائفيّة هي صفة لطَيف واسع من المعارضة السياسية والمُسلحة ضد النظام، وليست صفة للسوريين السنّة.
8- أي عقيدة دينية أو فئوية عقائدية قابلة للتشكّل سياسيًا في بعد طائفي عنصري، بما يشمل العقائد التبشيرية، كما في حال المسيحية والسنّية والشيعية، أو العقائد غير التبشيرية كما في حالة اليهوديّة والعلوية مثلًا.
* * *
ينبغي أن يُسمِّي الطبيب المرض باسمه الصريح، ولا يرى حرجًا من طلب تحليل براز مثلًا لاكتشاف المرض، ومن ثم علاجه، وكذلك إنّ تناول المرض الطائفي في مجتمعاتنا ليس إقرارًا بمشروعية الطائفية، بل هو توصيف لواقع اجتماعي سياسي موجود حاضر، واقع ينبغي التعامل معه بغية تجاوزه، باتجاه مجتمع أقل عنصرية وباتجاه دولة علمانية تقوم على المواطنة المتساوية. إذا كان الموقف الطائفي حاضرًا وفاعلًا في سلوك الأفراد والمجتمعات السورية، سواء في نظرتهم إلى أنفسهم أو الآخرين فكيف لباحث موضوعيّ أن يغفل ذلك! وإذا كان الموقف الطائفي حاضرًا في الحياة السياسية السورية، إلى درجة تأسيس ميليشيات مسلحة ذات جوهر طائفي (سنّي – علوي – شيعي..) وحدوث مجازر وتهجير على أساس طائفي، فكيف يمكننا إغفال ذلك!
* * *
من قرائن حضور البعد الطائفي للنظام السوري ما يلي: وجود توزيع غير متوازن وغير متناسب، خاصة في المؤسسة الأمنية والعسكرية بين السوريين من منظور عقائدي فئوي، حيث يشغل الضباط المنتسبون إلى الطائفة العلوية معظم المناصب الحسَّاسة والوازنة في أجهزة الاستخبارات والحرس الجمهوري والجيش، ويمكن في هذا السياق الوقوف على ظاهرة سرايا الدفاع (ميليشيا ذات مكوّن طائفي) بقيادة رفعت الأسد -الأخ الشقيق لحافظ- وكذلك التذكير بأسماء الجنرالات الذين لعبوا دورًا محوريًا في أحداث حرب الأخوين “رفعت وحافظ”، وتحكّموا في القرار الأمني العسكري في بداية الثمانينات: علي حيدر – شفيق فياض – إبراهيم الصافي – علي دوبا – محمد الخولي – علي الصالح – محمد ناصيف.. إلخ وكلّهم علويون، وهذا ليس بالأمر الجديد، فعقب انتصار الضباط البعثيين على شركائهم الناصرين في انقلاب آذار/ مارس 1963، أمسك بزمام السلطة الفعلية في سورية ثلاث جنرالات ينتمون للفئوية العلوية (محمد عمران – صلاح جديد – حافظ الأسد)، وجرى بينهم صراع مفتوح على السلطة، انتهى بانتصار حافظ الأسد واستلامه زمام الحكم عام 1970، في ما عرف آنذاك باسم “الحركة التصحيحية”، وفي مسار متوازٍ من الملاحظ أن منصب رئيس الجمهورية تناوب عليه في تلك الفترة الزمنية (1963-1971) ثلاثة رؤساء هم أمين الحافظ – نور الدين الأتاسي – أحمد الخطيب، وهؤلاء جميعًا ينتمون إلى الفئوية السنّية، ولم يكونوا أكثر من زعامات صورية. كذلك يُلاحظ أنّ الغالبية العظمى من ضباط الأمن والحرس الجمهوري ينحدرون من أصول علوية، وفي حالات كثيرة قد يكون صف ضابط علوي أكثر أهمّية وسلطة من ضابط سنّي ذي رتبة كبيرة، بما يؤكد قرينة البعد الطائفي للنظام.
* * *
من قرائن البعد الطائفي للنظام السوري حضور اللهجة العلوية كامتياز سلطوي، إذ إنّ رجال الأمن لا يلبسون أي زي خاص، فقط يعرفهم الشعب السوري من المسدس الذي يبرزونه على خصرهم، وكذلك غالبًا من خلال “اللهجة العلوية”، وطريقة التحدّث الفوقية مع مواطنيهم السوريين. حيث جرى ويجري تسويق لهجة جزء من الشعب السوري كرمز لسلطة البطش والاستبداد، حتّى إن معظم المنتسبين إلى الأجهزة الأمنية من فئويات أخرى يستعيرون ويُلوّنون كلامهم بمفردات وطريقة نبر اللهجة العلوية في تماهي مع الأقوى، وأذكر هنا قصةً عايشها كاتب السطور، في أثناء سنوات دراسة الطب في حلب، حيث كان الناس يجدون صعوبة في الحصول على الخبز من الفرن القريب في حي صلاح الدين، وكان أحد الزملاء يمتلك موهبة تقليد اللهجات، فكان ينتحل صفة علوي، وضمنًا رجل أمن، للحصول على الخبز دون الوقوف في الطابور. وتعقيبًا على ذلك نقول: من المُحزن -وبحق الفئوية العلويّة قبل غيرها- أن تُسوّق لهجة سوريّة بهذه الطريقة غير اللائقة، وأن تقترن في صورتها النمطية بالاستبداد وممارسة القهر على أبناء جلدتهم السوريين.
* * *
في الوعي الاجتماعي الشعبي كان هناك شعور نفسي مسيطر لدى سوريين من الفئوية السنية بالتمييز والاستضعاف، خاصة في/ من قبل: المؤسسات العسكرية والأمنية وبقية مؤسسات الدولة بدرجات أقل، حيث يتم مثلًا وسم الضباط المُنتمين إلى الفئوية السنية بـ “ضابط سنّي طرطور” وكلمة طرطور ذات دلالة تحقيرية، تعني: بلا قيمة، بينما يُوسم الضباط المُنتمين إلى الفئوية العلوية بأنّهم ضباط أقوياء ذوي نفوذ، عندما يحتاج المنتسبون إلى الخدمة الإلزامية في الجيش إلى توصية أو عندما يقعون في ورطة، فمن المُعتاد أن تُدفع رِشًا مالية أو بصيغة هدايا لضبّاط –غالبًا من الفئوية العلوية- ويستخدم السكان المحلّيون في حلب – إدلب – حماة – حمص تعبير: “ضبّاط من مْغرّبْ أو من الساحل”، كناية عن الانتماء الفئوي للطائفة العلوية، حيث إن أماكن سكن العلويين تقع إلى الغرب منهم. وكذلك من الشائع في سلوك الأجهزة الأمنية وفي المؤسسة العسكرية، تحقير الرموز الدينية، إذ إن البذاءة اللغوية وشتم الذات الإلهية والنبي محمد وطقوس المسلمين السنة وتمجيد وتأليه الأسد.. سلوكٌ شائع في هذه الأوساط، وكل ذلك بلهجة علوية مشددّة. إنّ هذا الشعور النفسي بالاضطهاد والتمييز ضدّ السوريين من الفئوية السنّية سوف يلعب دورًا وازنًا في تأجيج الانتفاضة الشعبية والثورة ضد السلطة السورية، وبما يُفسر كون جغرافيا ومجتمعات السوريين من الفئوية السنّية هي الحاضنة الأساس لها.
بالمقابل، في الوعي الاجتماعي الشعبي، كان هناك شعور نفسي مسيطر لدى سوريين من الفئوية العلوية بأن السلطة السورية تمثّلهم، وأنها “سلطتنا” بصيغة الملكية، حيث يجري النظر إلى أحداث/ مجزرة حماة 1982 على أنها انتصار لنا نحن -العلويين- على أنتم “السنّة أو على الأخص أهل مدينة حماة”، وتُستخدم الكثير من العبارات السوقية القاسية في المجتمعات المغلقة لتوصيف أحداث/ مجزرة حماة، ليس بكونها فرضًا لسلطة الدولة على متمرّدين أو صراعًا سياسيًا، بل على أنها صراع ذو بعد اجتماعي-عقائدي. وفي هذا السياق كان يجري استخدام تعبير “إخوان مسلمين” في هذه الأوساط ليس لتوصيف تنظيم سياسي معين، له انتشار ضمن الفئوية السنية، بل لتوصيف الفئوية السنية على المجمل والإطلاق [3].
* * *
يجري تبرير العنف الوحشي للسلطة السوريّة تجاه المتظاهرين والمجتمعات السورية السنّية الثائرة بأنه اقتصاص وثأر من مظالم تاريخية تعرضت لها الفئوية العلوية، وهنا ينبغي الاعتراف بوجود اضطهاد على أساس عقائدي تعرض له العلويون طوال قرون، وحتى منتصف القرن العشرين مع صعود التيار القومي الاشتراكي، اضطهاد مختلط عقائدي اقتصادي اجتماعي، حيث إن العلويين من سكان الأرياف الفقيرة على العموم، وينطبق عليهم ما ينطبق على الفلاحين من سكان الريف آنذاك، وسنسوق هنا رواية للسياسي السوري فائق المير، إبان فترة اعتقاله، في أحد الفروع الأمنية -فرع المنطقة في دمشق- حيث يورد “في هذا المكان ومن أمام باب زنزانتي، وحيث يتكوم ما يزيد عن خمسين آدمي بينهم أخي، وقف رئيس قسم التحقيق في الفرع آنذاك وأحد أشرس جلاديه، ليقول بالفم الملآن، لسجين يطلب العلاج لأسنانه التي تحطمت بفعل التعذيب: (حين كنتم تحكموننا كنّا نخلع أضراسنا بالكماشة، وأنتم تذهبون إلى الطبيب؟!، الآن نحن نحكمكم ، أنتم إلى الجحيم ولا طبيب لكم، ونحن من يذهب إلى الطبيب)[4]. وفقًا لشهادات متكررة يختبرها السوريون كان غالبية السجانين وقيادات السجون السياسية من الفئوية العلوية، حيث يورد مصطفى خليفة -كاتب سوري من أصول مسيحية- في روايته التسجيلية “القوقعة – يوميات متلصص”، عن ذكرياته في سجن تدمر: “الجنود والرقباء أغلبهم من المجندين الذين يؤدون الخدمة العسكرية، ومدتها سنتان ونصف، الأغلبية الساحقة منهم هم من أبناء الجبال والساحل، لهجتهم ثقيلة وتصرفاتهم غليظة وجلفة، ويستحيل أن يوجد بينهم واحد من أبناء المدن الكبيرة والرئيسة [5]. إنّ الممارسات الأكثر قسوة تجاه المعارضين السياسيين والمدنيين والقمع الأكثر وحشيّة، سواء في مجزرة حماة 1982 أو مجزرة تدمر 1980 وفي أقبية التعذيب أو خلال قمع الانتفاضة/ الثورة الشعبية الثورية الأخيرة، كانت مختلطة بدوافع ثأر طائفية ضد الفئوية السنّة.
* * *
في مجريات “الثورة/ الحرب السورية 2011″، كانت السلطة السورية تحظى بتأييد كبير ضمن الفئوية العلوية مقارنة بباقي الفئويات، ووفق دراسة أعدّها “مركز الشام للدراسات الديمقراطية وحقوق الإنسان” داخل سورية بعنوان (الاستقطاب الطائفي في سورية: توزيع الطوائف حسب دعمها للثورة أو النظام)، وشملت الشريحة كل المحافظات السورية، في الفترة ما بين الأول من تموز/ يوليو حتى 25 تموز/ يوليو عام 2011، أي في بدايات الثورة وقبل اشتداد العنف والتوحّش، كانت نسبة المؤيدين للنظام 84% في الطائفة العلوية مقابل 10% في الطائفة السنّية[6]، وهذا التأييد معروف لكل من يعيش في الداخل السوري، فكلمة الأحياء والقرى الموالية للسلطة هي غالبًا تسمية مرادفة للأحياء ذات الغالبية العلوية. والأحياء والقرى المعارضة هي تسمية مرادفة للأحياء ذات الغالبية السنّية في المناطق الساخنة. بالتأكيد يوجد العديد من التفسيرات الموضوعية لزيادة نسبة تأييد السلطة ضمن الفئوية العلوية منها: مخاوف الانتقام من قبل الثوار والجماعات السنّية المتطرّفة، ومخاوف انتشار الفوضى مع انحسار سلطة الدولة، المحافظة على امتيازات ومكاسب سلطويّة أو ما يظّنه البعض كذلك، الثقافة المُنغلقة واستحضار التاريخ بشكل سلبي، ضعف الثقافة التعددية الديمقراطية، الدوائر المُفرغة من الفعل وردّة الفعل الطائفي، قمع السلطة السورية لأي حراك وطني مُعارض أينما كان، وافتعال الفتنة الطائفية.. إلخ.
* * *
بشكل عام لم يتقبَّل الوعي الديني للفئوية السنّية المذهبَ العلوي، بدرجة تقبّل المذاهب والتفسيرات الشيعية الأخرى، وظهرت إشكالية تكفير العلويين ممثلة تاريخيًا بفتاوى ابن تيمية، حيث جرى استخدامها من قبل تيارات إسلامية متطرفة وخصوصًا “تنظيم الطليعة الإخوانية المقاتلة” في أواخر سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي في مرحلة صراعها مع وعلى السلطة السورية. ويمكن تتبع ذلك في تنظيرات سعيد حوّى – عدنان عقلة – مروان حديد – نشرات النذير- كتاب الإخوان المسلمون والمؤامرة على سورية ليوسف رزق.. إلخ. وفي مراحل لاحقة عند الملقب أبو مصعب السوري، في كتابيه: أهل السنة في الشام في مواجهة النصيرية والصليبية واليهود – ملاحظات حول التجربة الجهادية في سورية. لم يقم حزب الإخوان المسلمين السوري بمراجعة نقدية علنية كافية لمواقفه تجاه ما يُسمى بمشكلة الأقليات غير السنّية، على الرغم من أنّهم ابتعدوا بأنفسهم عقب إعلانهم ميثاق الشرف الوطني 2001 ومن ثمّ “المشروع السياسي لمستقبل سورية”، عن التكفير والتحريض ضد العلويين، وتبنّوا سياسيًا خيار سورية دولة حديثة مدنيّة تعدّدية ديمقراطية تقوم على المواطنة، ولكن تبقى هذه الصيغة السياسية ملتَبِسة فكيف تتحقّق المواطنة المتساوية دونما علمانية إجرائية على الأقل! تضبط وتقيّد مصالح ما يُسمى بالشريعة وأحكام الشريعة الإسلامية. سوف يعود شبح تكفير العلويين مع اندلاع الثورة/ الحرب السورية، كما نجده مثلًا في مقرر البيان الثالث من رابطة علماء المسلمين “الواجب على المسلمين نحو القضية السورية” 11/ 7/ 2011 الذي انعقد في إستانبول واستشهادهم بفتاوى ابن تيمية[7]، وكذلك فتوى للشيخ السلفي صالح اللحيدان “يدعو السوريين إلى الجهاد ضد السلطة (النصيرية الفاطمية) في سورية، وإلى قتل العلويين باعتبارهم أشد كفرًا من اليهود والنصارى[8]، حقيقة، لم تكن هذه الآراء المتطرفة ذات شعبية في المجتمعات السورية السنّية، ولكن مع تزايد وحشية السلطة السورية وحلفائها الطائفيين الشيعة، في قمعها للانتفاضة الشعبية، وصولًا إلى ارتكاب مجازر وإبادة جماعية بحق مجتمعات سنّية؛ سوف يحدث تغير في المزاج العام باتجاهات أكثر تشددًا.
* * *
ثمّة رأي مفاده أنّ الفئوية العلوية مسكينة لا حيلة لها، وهي مُختطفة يجري العبث بها من قبل السلطة السورية، أو على النقيض ثمّة رأي آخر مفاده أن المجتمع العلوي كاملًا يتحمّل مسؤولية جرائم السلطة السورية وحشيتها، كونه الحامل الاجتماعي المُخلص والمُستفيد منها. وإنّي أرى مغالطة كبيرة في كلا الرأيين، بما يميل إلى الاختزال والتبسيط، وسأعرض لتفصيل ذلك:
1- في أي مجتمع هناك قوى حيويّة وقوى قصور، أكثر أو أقلّ.. قوى حيويّة تلتزم بأولويات الحياة والعدل والحرية.. تميل باتجاه الانفتاح على الآخر وتأسيس فضاء وطني مشترك، وبالمقابل هناك قوى قصور تنتهك أولويات الحياة والعدل والحرية.. تميل باتجاه الانغلاق وتأسيس عصبية سياسية اجتماعية خاصة، وهو ما يُدعى بلغة المنطق الحيوي بالصراع ما بين قوى الشَّخصنة وقوى التفرّد [9].
2- هذا الصراع موجود داخل أي مجتمع وفئوية عقائدية أو سياسية، بما يشمل الفئوية العلوية والفئوية السنّية وأي مجتمع آخر، إنّ نتيجة هذا الصراع هي ما سوف يُحدّد المنسوب الحيوي للمجتمع، وبالتالي من المُغالطة القول إن العلويين جيدون لا علاقة لهم بالنظام، أو بالمقابل من المغالطة القول إن العلويين سيئون ويتحمّلون مسؤولية جرائم النظام، فالتعميم مناف للبرهان، ينبغي تسمية الأشخاص أو القوى وفقًا لمواقفها وسلوكها ودرجة حيويتها ضمن الفئوية العلوية وأي فئوية أخرى.
3- من الواضح تدني المنسوب الحيوي للفئوية العلوية، منذ اندلاع الثورة/ الحرب السورية 2011، وهذا وضع سوري عام، يشمل الفئوية السنّية كذلك، فهي ليست بأفضل حالًا بسبب هيمنة قوى الانغلاق والشخصنة فيها
4- الصراع بين قوى تفرّد الحيوية وقوى شَخصنَة القصور هو صراع ديناميكي لا يمكن الجزم بنتيجته أو تقرير نتيجته سلفًا، وأي مشهد سياسي -مهما يكن سيئًا- هو مُتغير وقابل للتغير باحتمالات واتجاهات مختلفة.
* * *
ثمّة سؤال يطرح نفسهُ: ترى ما الفائدة من توصيف النظام السوري بالطائفية ومحاولات إثبات ذلك، وماذا يترتب على ذلك من منظور سياسي مُستقبلي؟ في الإجابة على ذلك سأعرض لعدد من النقاط:
1- يمكن للباحث أن يتناول أي قضية من دون حاجة إلى تبريرات مسبقة من قبيل ما الهدف وما الغاية، فكيف بِتناول قضية ساخنة أصبحت بمنزلة مسلّمة عند غالبية السوريين من معارضي السلطة وكثير من المشتغلين بالسياسة والثقافة.
2- نزع القداسة عن السلطة السورية و”العلوية السياسية”، حيث أصبحت هذه القضايا من المحرمات بالنسبة إلى شريحة واسعة من المجتمعات السورية الموالية للسلطة، وكذلك طيف واسع من مثقفين يساريين وقومجيين وعلمانيين.
3- التوصيف ومحاولة فهم الواقع وتوازناته الاجتماعية والسياسية هو بداية أي فعل سياسي، أو ما قبل سياسي.
4- لا يمكن لسلطة طائفية أن توجد وتعمّر طويلًا في مجتمع غير طائفي، حيث إنّ السلطة هي رأس الهرم الاجتماعي، بما يمثّله من نخب اجتماعية واقتصادية وسياسية.
5- أسوأ استجابة ممكنة تجاه الطبيعة الطائفية “العلوية السياسية” للسلطة السورية هي تبنّي موقف طائفي سنّي مضاد، وبالتالي يخسر الصراع السياسي بعده الوطني والحضاري والإنساني، بما سوف يؤدي إلى تفاقم الصراع وتفتت المجتمع السوري.
6- العلوية كما السنّية كما الهندوسية كما أي عقيدة دينية أخرى، ليست بجوهر ثابت بل هي -وفقًا لنظرية المنطق الحيوي- شكل حركي احتمالي احتوائي نسبي يعرض لمصالح أكثر أو أقل صلاحية ربطًا بأولويات الحياة والعدل والحرية، وإنّ العلوية السياسية -بوصفها أحد أبعاد السلطة السورية- ليست هي البعد الوحيد، وليست هي صفة ملازمة للعلوية دون غيرها من العقائد الفئوية، فأي عقيدة دينية قابلة للاستخدام والتوظيف في شكل سياسي بما يخدم مصالح الهيمنة والسلطة.
7- الطائفية السياسية حالة سورية عامة عابرة للمجتمعات والتشكيلات السياسية السورية بشكل يزيد وينقص، ووصف السلطة السورية بالطائفية لا يستقيم دون توصيف طيف واسع من حركات المعارضة السورية بالطائفية أيضًا، بما يشتمل على حزب الإخوان المسلمين والحركات السلفية الجهادية السنّية كجبهة النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام و”حزب الله” وسائر المليشيات الشيعية التي تقاتل على الجغرافيا السورية الآن.
8- الاستبداد قرين العصبيات الاجتماعية بكلّ أشكالها دينية، قبلية، مناطقية، حزبية.. والعصبيات بكل أشكالها هي استبداد طموحه الهيمنة والتغوّل؛ وبالتالي فالأساس الاجتماعي/ السياسي للطائفية السياسية هو الاستبداد وليس العكس.
الهوامش
[1] حبر ناشف: انتخابات سورية البرلمانية الحرة عام 1954، بلال سلامة، جريدة سوريتنا، العدد 58، تاريخ 28-10-2012، ص 15-16. [2] المليشيات الشيعية المقاتلة في سورية، موقع الشبكة السورية لحقوق الإنسان، على الرابط https://sn4hr.org/public_html/wp-content/pdf/arabic/shia’a-arabic.pdf [3] عن الطائفيّة والضابط السنّي الطرطور، حمزة رستناوي، الحوار المتمدن – العدد: 3675 – 22/ 3/ 2012. [4] ذكريات مرّة في فرع المنطقة للمخابرات العسكرية الذي تم استهدافه بالتفجير المشبوه.. فايق المير، موقع زمان الوصل، تاريخ 25/ 12/ 2001. [5] القوقعة – يوميات متلصص، مصطفى خليفة، دار الآداب، بيروت، ط3 – 2012، ص89. [6] الاستقطاب الطائفي في سورية، مركز الشام للدراسات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، موقع كلنا شركاء تاريخ 17/ 8/ 2011. [7] البيان الثالث من رابطة علماء المسلمين، موقع المسلم الالكتروني: 10/ 8/ 1432 – الموافق 11/ 7/ 2011. [8] صحيفة اليوم السابع، القاهرة، تاريخ: 23 نيسان/ أبريل 2011. [9] هذا المصطلح من وضع رائق النقري، وللتوسع يمكن مراجعة كتابه فقه المصالح، دار الأمين، القاهرة، 1999، ص53. [sociallocker] [/sociallocker]