الجولان لـ “إسرائيل” والسلطة لحافظ أسد
6 يونيو، 2017
مصطفى الولي
في السنوات الأولى ما بعد الهزيمة العربية، في 5 حزيران/ يونيو 1967، وتحديدًا بعد انقضاض حافظ أسد على السلطة في سورية، لم يكن الكلام عن تسليم الجولان، وعن إعلان سقوط القنيطرة قبل دخول القوات الإسرائيلية إلى المدينة، كلامًا له ما يدعمه بالوثائق، ولا باتفاقات معلنة وواضحة مع القيادة الإسرائيلية. غير أن التطورات اللاحقة، في موضوع العلاقة بين سلطة الأسد والمصالح السياسية والأمنية لدولة “إسرائيل”، أظهرت الحقائقَ على شكل ممارسات عملية واقعية، تلغي الضرورة للبحث عن وثائق تثبت أن حافظ أسد، يوم التاسع من حزيران، قام بالعمل الذي يحقق لـ “إسرائيل” أفضل الامتيازات الأمنية الاستراتيجية.
في 5 حزيران/ يونيو 1967، لم تكن مقدرات السلطة كلها بيد حافظ أسد، لكنه لم يغمض عينيه عن شهوته لها، ومن موقعه المهم والمؤثر -وزيرًا للدفاع وقائدًا لسلاح الجو السوري- وجد فرصته لإزالة العقبات من طريقه، للقفز إلى رأس هرم السلطة، فأدار ظهره عن مواجهة “إسرائيل” وركز نظراته على هدف التربع متفردًا على كرسي الحكم، وكان له ما أراد في عام 1970، بعد أقل من ثلاث سنوات من الهزيمة وسقوط الجولان بيد الجيش الإسرائيلي.
أجمعَ الضباط والجنود السوريون الذين عايشوا أيام الحرب على أنهم صُدموا ببيان وزير الدفاع حافظ أسد عن سقوط القنيطرة، وكانوا ما يزالون في داخلها وعلى سفوح الجولان، والأقسى كان قرار الانسحاب “الكيفي” باتجاه درعا ودمشق، وهو ما لم تشهده تجارب جنرالات العالم على الإطلاق، حين يرتبط الانسحاب بجيش كامل مؤلف، من فرق وألوية وكتائب من مختلف صنوف الأسلحة البرية. وما تبين لاحقًا أن حافظ أسد أعاد تشكيل ألوية وفرق الجيش السوري لتكون في قبضته، فبعد الانسحاب الكيفي تم تسريح عدد كبير من الضباط الذين يشك بولائهم أو بالقدرة على إقناعهم والسيطرة عليهم، ووسع من التشكيلات العسكرية التي أُنشئت خارج ضرورات بناء “جيش الوطن”، كالوحدات الخاصة، والقوات الخاصة، وبحجة الدفاع عن “الوطن” رفعت موازنة وزارة الدفاع أضعافًا مضاعفة، كما فُعّلت حالة الطوارئ بغطاء تطور الصراع مع “إسرائيل”، وبذريعة خصوصية سلاح الجو وأهميته جعل من فرع الاستخبارات الجوية جهازًا خاصًا يخضع لإمرته مباشرة؛ ليكون أحد أدواته القمعية، وليورّثها من بعده ابنَه.
أما عن حقيقة الانسحاب من القنيطرة، قبل سقوطها والأمر بالانسحاب الكيفي منها، فقد أكدت قيادات السلطة حينئذ، بتصريحات غير رسمية، أنه لم يأخذ رأي رفاقه، وبرر ذلك أنه -بصفته وزيرًا للدفاع- هو المخول بالإجراءات العسكرية، وكأن قرار الانسحاب وترك القنيطرة للعدو قضيةٌ مهنيةٌ، تعادل تحريك كتيبة أو سريّة، ولا تخص الدولة على المستوى الوطني.
حاصله أن حافظ أسد استثمر ظروف الهزيمة التي شارك في صنعها، بالمضي قدمًا نحو أخذ السلطة بالتآمر على رفاقه في الحزب والنظام، وبتجذير نفوذه في مؤسسات السلطة، خاصة العسكرية والأمنية منها، تاركًا لبقية أقطاب الحزب الحاكم التعيش على شعار “حرب التحرير الشعبية” وبناء ما يُدعى بـ “الجيش الشعبي”، يتلهون به عن استعداداته الحثيثة لاستئصالهم والتفرد بالحكم بانقلاب عسكري تآمري. وكانت لحظة انقضاضه مرتبطة بالموقف من الصراع في الأردن، حيث واجهت المقاومة الفلسطينية حربَ تصفية على الأراضي الأردنية، حينذاك رفض مشاركة سلاح الطيران لحماية القوات السورية التي اندفعت للدفاع عن المقاومة، وكان بموقفه هذا يلتزم بالمصلحة الإسرائيلية، على خلفية السعي لتصفية قواعد الفدائيين على الجبهة الشرقية.
في الوقت الذي استخدم فيه حافظ أسد شعارات التحرير ودعم القضية الفلسطينية، مضى نظامه نحو ترسيخ واقع الهزيمة من الداخل، وكان الحفاظ على السلطة و”تأبيد وتخليد” بقائه هاجسَه الأساسَ، بل الوحيد. وفي هذا السبيل شرع ببناء الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية بما يلبي له غايته؛ فدمّر -أولًا بأول- مقوماتِ الحراك السياسي في المجتمع، واستأصل كل صوت ديمقراطي معارض، بعد أن نفذت استخباراته عمليات تصفية واغتيالات لمن تبقى من رموز الماضي، والبطش بالقوى السياسية السورية على مختلف تعبيراتها، وسحق الحركتين الوطنيتين الفلسطينية واللبنانية، باجتياح قواته للبنان، بتفاهم مع “إسرائيل” عبر خط الارتباط الأميركي، واختصر اللبنانيون والفلسطينيون لسان حالهم في توصيف دوره، بعبارة بسيطة وشعبية: “فأر في الجولان أسد في لبنان”.
لم يقتصر دور نظام الأسد، في خدمة الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، على خطواته الإجرائية على الحدود وفي لبنان، فقد كان الأخطر تحويل سورية، بمقوماتها كافة، إلى كتلة صمَاء لا حياة فيها إلا للطغمة الحاكمة، وزرع بذور التناقضات الطائفية والمذهبية عن طريق بناء مؤسستي الجيش والأمن، والإدارات المختلفة. وهو ما عدّه الأغبياء والمنتفعون من الاستبداد “استقرارًا” لم تشهده سورية من قبل! وهناك كثيرون افتخروا بأن الأسد في عهده نجح بقطع الطريق على “الانقلابات العسكرية”، بينما واقع الحال أنه كان يسعى لقطع الطريق تمامًا على أي تطور سياسي ينشد الإصلاح والتغيير. وفي مثل هذه الأوضاع وجدت “إسرائيل” ضالتها في الاطمئنان أن لا خطر يأتي “من الشمال” ذلك هو المنطلق الاستراتيجي في نظرة القادة الصهاينة لأمن دولتهم واستكمال مشروعهم. زيادة على ذلك فإن التأسيس لتمزيق النسيج الوطني للشعب السوري جاء على “طبق من ذهب” كرصيد للأمن الإسرائيلي. وأظهرت سنوات الثورة السورية، ضد الطاغية الوريث، أن سورية “الأسد” هي سورية النموذجية للاستراتيجية العليا لـ “إسرائيل”. ولم يجد رموز النظام حرجًا، بعد انطلاق الثورة عام 2011، في الإفصاح عن ترابط أمن “إسرائيل” ببقاء النظام وهزيمة الثورة، كما أن القادة الإسرائيليين، وفي مداولاتهم بمؤتمرات “هيرتسليا”، توصلوا إلى استنتاج بأن تغيير النظام في سورية لا ضمانة فيه لأن يكون البديل عنه أفضل لأمن “إسرائيل”. وهم اليوم يتفرجون بارتياح للتدمير الشامل الذي يقوم به الطاغية الابن وسلطته الفاشية الطائفية المتوحشة. وما بدأه الأب عام 1967، في تسليم الجولان، يستكمله الابن بتحويل سورية إلى أشلاء، يرقص فوقها الاستراتيجيون الصهاينة بتحويل “الشمال” إلى أمن طويل المدى لدولتهم ومشروعهم. وإذا كانت اتفاقيتا الصلح المصرية والأردنية مع “إسرائيل”، قد قدمتا مكاسب كبيرة للاستراتيجية الإسرائيلية؛ فإن المكسب الأهم والأخطر والبعيد المدى هو تحويل نظام آل الأسد لسورية من “خطر قادم من الشمال” إلى “حديقة اطمئنان وأمان” توفر لـ “إسرائيل” أفضلَ الظروف لجني الثمار، على حساب سورية البلد والشعب. ذلك هو ما فعله نظام “الأسد إلى الأبد”.
[sociallocker] [/sociallocker]