تركة (داعش) عندما ترسم مستقبل المنطقة
10 يونيو، 2017
عمار عيسى
ظهر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية والعراق عام 2013، إثر طفرة تطورية على بعض أمراء تنظيم “قاعدة الجهاد” في بلاد الشام وخريجي معتقلات الأسد من الإسلاميين، كقوة عسكرية متنامية مغلقَة على نفسها، ومستفيدة من الفوضى العسكرية، ومتغلغلة في بيئات اجتماعية يسودها الجهل والفقر، وسيكولوجية يعتريها التهميش والإقصاء، لممارسة دعايتها السياسية، وجذب الشبان عبر “بروباغندا” اشتُهرت بها، إلى جانب سخاء مادي وتعبئة أيديولوجية وشعارات ديماغوجية، تُقنع عناصرها بأنهم وكلاء حصريين يحاسبون الناسَ “باسم الله”.
بعد أربع سنوات، من سيطرتها الوحشية على أراض واسعة في سورية والعراق، وما تخللها من رفع الستار عن وضع محلي ركيك، جعل مجتمع البلدين مطمعًا لكل ذي صاحب مصلحة ومشروع، تبدو (داعش) الآن الواهنة والآفلة أيضًا، محلَّ استثمار، فالجميع يتنافس على تركتها انطلاقًا من أهدافه الخاصة، كما تلعب هي أيضًا على الحبال، وتُوظّف اختلاف المصالح بين الجميع، وتستفيد من المتناقضات بين الأطراف المتدخلة، علّها تتنازع، وتُحسّن من شروط بقائها بالشكل الممكن.
طفت على السطح في الآونة الأخيرة جبهةُ البادية السورية المنسية منذ سنوات، حيث شهدت سباقًا محمومًا، بدأته المعارضة السورية ممثلة بفصائل الجيش الحر المدعومة من التحالف الدولي، متزامنة ومستفيدة من ضخ إعلامي لمعركة أطلقتها فصائل عسكرية معارضة للسيطرة على منطقة العباسيين في 19 مارس/ آذار الفائت. أحرزت قوات الجيش الحر تقدمًا مثيرًا على قوات (داعش) التي لم تُبدِ مقاومة كعادتها، حيث كانت تسيطر على مساحات شاسعة في البادية آنذاك، وذلك كله في إطار الحملة الدولية ضد التنظيم، لتقليص مساحات سيطرته وحشره في مناطق معزولة يسهل السيطرة عليها. لكن لا يبدو أن الأمر بتلك السهولة، فالأطراف المتدخلة سرعان ما انجذبت وأخذت تتصارع على التركة، كل حسب منظوره، رغم المعوقات التي يواجهها كل طرف.
أولًا – التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية:
في تلك المنطقة، يأخذ التحالف الدولي من قاعدة التنف العسكرية في المثلث (الأردني-السوري-العراقي) مكانًا استراتيجيًا، يتواجد فيها قوات أميركية وبريطانية ونرويجية، تُقدّم التدريب والدعم العسكري واللوجيستي والتقني لقوات الجيش الحر المتواجدة هناك (أسود الشرقية، مغاوير الثورة، جيش أحرار العشائر) التي تُقاتل (داعش) في البادية، فبعد العودة الأميركية إلى المنطقة، وزيادة الانخراط بملفاتها بعد طول انكفاء وتجاهل، شكّلت سورية وحالة عدم الاستقرار فيها مدخلًا مهمًا، بدا ذلك جليًا في الشمال السوري، بعد أن نشرت قوات أميركية جديدة وزادت من الاهتمام والدعم للقوى المحلية هناك لإطلاق معركة عزل الرقة إلى حين بدء تحريرها بعد إنجاز تفاهم وحوار مع تركيا، الأمر الذي يبدو أنّ وجهات النظر فيه ما زالت متباعدة.
وبالتوازي عملت أميركا وحلفاؤها المحليين من قوات الثورة السورية بالتوسع شرقًا، رغبة منها في السيطرة على الشريط الحدودي مع العراق، وإصابة عدة أهداف بضربة واحدة، أولها الفصل بين طرفي التنظيم في سورية وفي العراق، وتضييق الخناق تمهيدًا للقضاء عليه كي لا يذوب، وتنفلت بقاياه في البادية، وتنشئ بؤر منتشة هاجعة تتفعّل عند أي خلل في النظام العام، وثانيها قطع الطريق على النظام الإيراني، المُدرج على سلم الأولويات الأميركية، بالسيطرة على الشريان البري الحيوي (طهران – بعقوبة – البوكمال – البادية السورية – حمص – اللاذقية) الذي تُقيمه طهران للوصول إلى الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وثالثها في سيرورة الضغط على النظام السوري، وعزله في مناطقه الداخلية، ووقف تدفق المساعدات العسكرية الإيرانية المُقدمة له، وحصاره اقتصاديًا عبر حرمانه من المواد الأولية والنفط والغاز المتواجد بأغلبه في الشمال والشمال الشرقي من سورية، ورابعها تحسين الواقع الميداني واكتساح منطقة نفوذ استراتيجية، تكون مهمة في أي مفاوضات مستقبلية مع الطرف الروسي وإجباره على التنازل.
يبدو مما سبق، وبشكل متآزر، عوامل جذابة ومثيرة لأميركا ومصالحها (الدفاع عن حلفائها “إسرائيل” والأردن) وأمنها القومي (التخلص من “داعش” واستقرار المنطقة)، نتج عنها ضربة أميركية عنيفة، بعد رسائل تحذيرية عبر قنوات اتصال مع الروس، دمرت رتلًا لميليشيات شيعية، حاولت التقدم باتجاه التنف يوم 18 أيار/ مايو 2017، لمنعهم من الاقتراب من الحدود، بعد أن استشعر النظام وحلفاؤه الإيرانيون والروس خطورة الوضع.
يواجه التحالف معوقات في سبيل تحقيق تلك الأهداف، ولا سيما من ناحية التسليم والركون الإيراني للمتغير الجديد، بعد أن وضع الإصبع الأميركي بشكل أكبر وأكثر اقتحامًا مما سبق، والمعوق الأخر الذي يطل برأسه أن قوات الثورة السورية أضحت تُقاتل على جبهتين، (داعش) من جهة، وجبهة النظام والميليشيات الإيرانية من جهة أخرى، مما يثير مخاوف استنزافها.
ثانيًا – روسيا ذات الوجهين:
تظهر روسيا للمجتمع الدولي الوجه الحسن الباحث عن حلول جذرية للمنطقة ولمشكلة الإرهاب، فترعى مؤتمرات، وتكثف اللقاءات وتظهر الحيادية عندما يتطلب الأمر، ويسافر نائب وزير خارجيتها غينادي غاتيلوف إلى كل “جنيفٍ” سوري، باحثًا عن الحل لهذا الشعب المسكين، ويتهمون العالم أجمع بأنه لا يريد حلًا.
تتصرف روسيا بوقاحة منقطعة النظير، وكأنها ليست في صلب المشكلة، وكأنها لم تستغل الانقسامات الطائفية في هذه المنطقة المشتعلة، وتحالف إيران ونظام الأسد لإدماء الشعب السوري ولتناكف الغرب وتضغط عليه، فعندما يتعلق الأمر جديًا بجلب السلام والاستقرار للمنطقة، لا تلبث موسكو أن تُظهر وجهها الثاني المخادع؛ فمحاربتها وفهمها للإرهاب لا يشمل (داعش) إلا حينما يُنغّص على أطراف جدية تحاربه، والإرهاب بنظرها لمن يُعارض الأسد، ومؤتمراتها “الأستانية” إنما للالتفاف والمراوغة على المرجعيات الدولية أو إفشالها، فتارة تريد فرض دستور يُكرّس نظام الحكم الفاقد للشرعية، وتارة تبتدع مصطلحات فضفاضة من قبيل “تخفيض التوتر” وتبحث عن شركاء لها فيه، بالطبع ليس من باب الحرص على الشعب السوري، وإنما من باب تبريد جبهات ما، وسحب الميليشيات وقوى النظام السوري منها باتجاه أماكن أكثر استراتيجية كالبادية السورية، ويُكرّر غاتيلوف في الاجتماعات مع المعارضة ما يقوله وزيره سيرغي لافروف من إصرار دوغمائي، على ما يريدون أن يُلبسوه للمعارضة بجعلهم تحت سقف نظام الأسد.
تسرّب مؤخرًا، أن اجتماعات أميركية ــ روسية في 25 أيار/ مايو الماضي حصلت في عمان، بعد إصرار أردني إثر الخطر المحدق على حدودها من (داعش) أو من ميليشيات شيعية عابرة، أظهرت الأردن بكل وضوح معارضتها لوجودها قرب حدودها، حسبما أبلغ وزير الخارجية محمد المومني نظيره الروسي، ورشح عن هذه الاجتماعات، كما أكدت صحيفة (الشرق الأوسط)، اتفاقٌ روسي ــ أميركي على تهدئة التوتر وتقاسم النفوذ في البادية، سرعان ما أفشله النظام والميليشيات الشيعية بالاقتراب عسكريًا من قاعدة التنف، ومهاجمته فصائل الجيش الحر المدعومة أميركيًا، وتم تحذيرهم والطلب منهم التراجع إلى حاجز الظاظا، الذي يبعد عن التنف 75 كم، عبر مناشير ألقاها التحالف.
ليس هذا الاستدلال الوحيد عن أن ما جرى في الاجتماعات سوى إغراق الطرفين بعضهما بالتفاصيل، بل القصف الروسي من البحر عبر غواصات روسية، في 31 أيار/ مايو، و1 حزيران/ يونيو 2017 على قوات الجيش الحر المتواجدة هناك، إثر قيامها بردع الميليشيات الشيعية وردّها أدراجها بعيدًا عن التنف، يُعزز هذه النظرة، فموسكو الآن، بعينٍ أميركية، أمام احتمالين: إما أنها تستخدم النظام السوري والميليشيات الإيرانية، وتوظفهم كورقة بيدها، وتضغط بهم متى تريد لتحصل مكاسب -وهذا هو الأرجح- أو أنها لم تعد تملك حظوة وسطوة عليهم، ويبدو كلا الاحتمالين أسوأ من الآخر، وهي بذلك تضع التعاون الروسي ــ الأميركي، في المدى المنظور، على المحك.
ثالثًا – إيران وميليشياتها المحلية والعابرة:
تبني إيران مشروعها التوسعي، بطريقة تفاعلية من الأسفل إلى الأعلى، وبالعكس، حيث تُوظّف حكومات تجعلهم أدواتٍ منفذةً لأجنداتها، وتنهش في المجتمعات ذات المناعة الضعيفة، وتنشئ ميليشيات (ميليشيات الحشد الشعبي في العراق، وميليشيات الدفاع الوطني في سورية) تمدّهم بالسلاح والمال، وتجعلهم ذراعًا ووقودًا لمشروعها، وتقوم الخطة الإيرانية في هذا الحيز، وتكريسًا لاستراتيجيتها التوسعية، على تأمين الحماية للخط البري (طهران – العراق –سورية) وصولًا إلى قاعدة بحرية تنشدها على البحر المتوسط، فهي تحقق بذلك تواصل جيو استراتيجي يجعلها بوضع أفضل من ناحية الخط البري المتواصل الذي يربطها بـ (حزب الله) أيضًا، وتستغني عن التواصل الجوي المتعب والمرهق ماديًا واقتصاديًا في سماء مليئة بجنسيات مختلفة من الطائرات، وتعتمد طهران على تكتيك واضح، إذ أوعزت لميليشيات الحشد الشعبي في العراق لاحتلال الحدود السورية – العراقية من نقطة (ربيعة) وحتى (القائم) العراقيتين، وأوعزت أيضًا لميليشيات (حزب الله) الذي دفع بمقاتليه مؤخرًا، والميليشيات الإيرانية في سورية، للسيطرة على البوكمال وأبو الشامات شرق سورية، وبالفعل حققت القوات المدعومة إيرانيًا، باندفاعة واضحة، تقدّمًا على مختلف الجبهات (جبهة شرق حمص، وجبهة ريف السويداء باتجاه الشمال الشرقي، وجبهة ظاظا – سبع بيار – جبهة قضاء البعاج) في سورية والعراق، وعلى الرغم من الإصرار الإيراني على بلوغ الهدف؛ تبدو معوقات هذا المشروع أكثر جدية.
المعركة التي تخوضها إيران، خارج حدودها، تُواجه بتحد صارم من أميركا وحلفائها المحليين، حيث ضمِنَ الأميركيون والإنكليز التنف، وعينهم الأخرى على البوكمال لإنشاء قاعدة شبيهة، والحلفاء المحليين (قوات البيشمركة وقوات سورية الديمقراطية) يعتبرون أن الحشد الشعبي العراقي يمر عبر فضائهم الجيوسياسي ويهدد الجغرافيا الكردية، وهذا ما هددت به ميليشيات (قوات سورية الديمقراطية) ببيان واضح في 1 حزيران/ يونيو 2017، إثر التقدم الملفت للنظر لميليشيات الحشد الشعبي على قوات (داعش) في الجهة الجنوبية الشرقية لمدينة الحسكة وانسحابهم منها بعد ساعات.
إن طبيعة الأرض، وخاصة في البادية السورية التي تمتد على مساحات شاسعة صحراوية، لا تُمكّن جهة واحدة من فرض السيطرة عليها، بما تتطلبه من إمكانات موارد بشرية ضخمة، فهذه ليست حرب مدن، اعتادت عليها أذرع إيران، لتعالجها بتدميرها أو حصارها.
الأمر الآخر يتعلق بوضع قوات الثورة السورية، وتنظيم ذاتها المتنامي، واحتمال استقدام تعزيزات من الشمال السوري لمقاتلين محليين من دير الزور، وإنشاء غرفة عمليات فعالة تراقب الوضع وتتصدى عند اللزوم، وهذا ما يفسر أخيرًا معركة (الأرض لنا) التي أطلقوها في البادية، وجربت روسيا صواريخها من البحر على فصائل الثورة المقاتلة هناك.
رابعًا – داعش كرة الطين:
تتقاذف الأطراف تنظيم (داعش) كل حسب هدفه، وبما يتوافق مع تصعيب المهمة وتعقيدها على الطرف الأخر، فقامت روسيا بقصف رتل لـ (داعش)، كان متجهًا من الرقة باتجاه البادية السورية، في 25 أيار/ مايو الماضي، واتهم لافروف ميليشيات (قوات سورية الديمقراطية) بأنها تنسق مع (داعش)، وبحسب الفهم الروسي، هذه القوات إنما تتجه إلى تدمر لتستنزف موسكو والأطراف المحسوبة عليها، وبالمثل، أبلغت دمشق، وبتعليمات روسية، في 20 أيار/ مايو الماضي، أمير تنظيم (داعش) في أحياءها الجنوبية (مخيم اليرموك والحجر الأسود وجورة الشريباتي) بأن يتجهز للرحيل وعناصره البالغين 1500 مقاتل إلى الشمال الشرقي من سورية، لتصعيب المهمة على التحالف الدولي والأطراف المحسوبة عليه؛ تم تأجيل الإخلاء مؤقتًا لأسباب مجهولة مع احتمالية تنفيذه مستقبلًا حسب تطور الأحداث.
هذا التقاذف، يلامس رغبات (داعش) التي تتلخص في تقليص مساحاتها وتركيز قوتها، وبغض النظر عن صعوبة موقفها، تُمارس براغماتية سياسية وتلعب على هامش التناقضات بين الأطراف (تعالج (داعش) جرحاها المصابين بالمعارك العسكرية مع فصائل المعارضة في أحياء دمشق الجنوبية، في مشفى المهايني عبر اتفاقية مع نظام الأسد)، وتقوم بحركات انسلالية مفاجئة من بين القوات المتصارعة لتسرع المواجهة فيما بينهم، كما حدث مؤخرًا في مدينة الحسكة بانسحابها من قرى دون مقاومة، واضعة ميليشيات (الحشد الشعبي) وميليشيات (قوات سورية الديمقراطية) أنفًا لأنف، وهذا ما تفعله في البادية وشرق حلب أيضًا.
أخيرًا:
تضارب المصالح واختلاف الأولويات بين الجميع بات في الذروة، وأصبحت البادية السورية بوابة لمسار جديد، يرسم شكل الصراع، ويفعل أطراف جديدة قديمة (إسرائيل والأردن)، إذ تُنبئ الاستهدافات المتبادلة بين القوى بتسعير جديد، تلوح معالمه في الأفق، في صورة تُظهر أميركا وحلفاءها في موقف هجومي يُعيد التوازن، وإيران وروسيا في موقف دفاعي عن مكتسباتهم المحققة سابقًا، لكن هذه المرة عبر (داعش) وتقاسم تركتها، فالورثة يعلمون أن من يحصل على الحظوة سيرسم مستقبل المنطقة.
[sociallocker] [/sociallocker]