on
“أستانة”.. نهاية مسلسل روسي رديء
العربي الجديد
بعد أن مر الموعد المقرّر من قبل لعرض حلقة أخرى من مسلسل أستانة الممل، وزاد تثاؤب المتفرّجين، جراء خلو هذا الإنتاج التلفزيوني من كل عناصر التشويق والإثارة اللازمة لاستقطاب المتلقين، أعلن وزير خارجية كازاخستان تأجيل عقد الاجتماع الدوري المنتظم لما بات يُعرف باسم مسار أستانة، إلى أجل غير معلوم، فكان وزير الدولة المضيفة كمن يعلن عن انتهاء فعاليات معسكرٍ كشفي، قبل أن يتم توزيع الجوائز الرمزية على المشاركين، في ختام هذا النشاط الترويجي.
لم يمر وقت طويل، حتى تبيّن أن إعلان كازاخستان عن فض هذه اللعبة الملفقة من ألفها إلى يائها، كان قراراً غير منسّق مع موسكو، ان لم نقل إنه كان مفاجئاً للدولة التي أعدت هذه الدراما السياسية الباهتة، في أوائل العام الجاري، وأخرجتها كيفما اتفق، الأمر الذي حدا بنائب وزير الخارجية الروسية إلى الإعلان أن مؤتمر أستانة تأجل بضعة أيام فقط، وأنه سيعقد في العشرين من شهر يونيو/ حزيران الحالي، وكأن شيئاً لم يصدر عن الجمهورية الآسيوية السوفياتية السابقة.
ولعل هذا التضارب في الدعوة إلى عقد اجتماع النسخة الخامسة من مؤتمر أستانة، بين الدولتين، المضيفة والراعية، أي كازاخستان وروسيا، هو بمثابة أول ورقة نعي لهذا المسار الذي سبق لموسكو أن اختارت مكانه وزمانه على نحو مريب، وحدّدت هويات أعضائه المشاركين بشكل تعسفي، في لحظةٍ بدت مواتيةً للدولة التي أملت نفسها على جميع الأطراف، في أعقاب معركة حلب الفاصلة بين مرحلتين من زمن الثورة السورية، حيث بدت روسيا آنذاك صاحبة اليد العليا في مسار الأزمة الدامية الطويلة.
ويصحّ هذا الاستنتاج المتعلق بدنو أجل مسار أستانة، حتى وإن انعقدت جلسة أخرى في الموعد الجديد الذي حددته موسكو من دون استئذان مسبق من شريكيها الإقليميين؛ إيران وتركيا، بل وربما من دون التشاور مع الدولة المضيفة التي درجت، في العادة، على أخذ زمام المبادرة بتوجيه الدعوات إلى المشاركين، وتحديد يوم انعقاد المؤتمر، بالتفاهم مع الدولة الراعية هذا المسار الذي ظل يراوح مكانه، في ظل حالة تكاذبٍ يقوم بها أغلب المشاركين، بادعاء النجاح في ختام كل جولةٍ حافلة بالصور التذكارية.
تستند هذه المقاربة لمآلات مؤتمر أستانة إلى حقيقةٍ مستمدة من منطق عقد هذا المؤتمر الذي تم توقيت أول جولة له في الثاني والعشرين من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، أي في لحظة الانتقال السياسي في البيت الأبيض، إن لم نقل لحظة فراغ أميركي كان قائماً من قبل، بلغت ذروته في تلك الفترة التي كانت فيها روسيا تلتقط أول صورة لها مع ما تدّعيه أول “نصر” على قوى الثورة والمعارضة في أحياء حلب الشرقية، الأمر الذي شجعها على تحويل ذلك المكسب العسكري إلى إنجاز سياسي، كانت تمنّي نفسها به، وتتحرّق لتحقيقه في أسرع وقت ممكن.
وليس أدل على استعجال روسيا توظيف نتائج معركة حلب، قبل أن يفلت الوضع من بين أيديها، والاستثمار السياسي في تلك النتيجة بصورةٍ مكثفة، سعيها إلى تحويل منصة أستانة المقامة على قاعدة التهدئة، وتثبيت خطوط وقف إطلاق النار القائمة، إلى مسار سياسي بديل لمؤتمر جنيف المتعثر، تفرض فيه موسكو رؤيتها للحل المستمد من لحظةٍ حربيةٍ فارقة، ومن تفرّدٍ شبه كامل بمسارات الأزمة الكارثية السورية، بدليل طرح روسيا مسودة دستور سوري جديد، ومحاولة فرضه على الأطراف المعنية، وهو ما شكل صدمةً للجميع، بما في ذلك وفد النظام السوري نفسه.
مع مرور مزيد من الوقت، خبا “النصر” الروسي شيئاً فشيئاً، وفاتت لحظة القطاف السياسي في الوقت الملائم، وتكريس حقيقةٍ دبلوماسية منتهية. كما بدت يد روسيا الطويلة أقصر من أن تطاول سائر مكونات المشهد السوري المتغير باضطراد، وأضيق من أن تحتوي كل المتغيرات المتلاحقة التي ظلت الأزمة السورية المعقدة تنتجها، ثم تعيد إنتاجها، في النطاقين؛ الإقليمي والدولي، لا سيما مع زيادة الحضور الأميركي على مسرح الأزمة، حتى وإن كان البعد العسكري لهذا الحضور أشد رجحاناً من البعد السياسي للدولة العظمى، المفتقرة بعد لاستراتيجيةٍ خاصةٍ بها في إطار التعاطي مع تطورات الحالة السورية.
وأكثر من ذلك، تعقد المشهد الإقليمي المعقد أصلاً، وطرأت عليه تحولاتٌ جديدةٌ وعميقة الغور، منذ انعقاد القمة الأميركية- الإسلامية في الرياض، تلك القمة التي وعدت بقيام تحالف استراتيجي شرق أوسطي بقيادة الولايات المتحدة التي قلبت صفحة باراك أوباما إلى صفحة مغايرة، تشي بانخراطٍ أوسع وأعمق في شؤون هذه المنطقة وشجونها الكثيرة، وهو ما من شأنه أن يقلص حدود المناورة المتاحة أمام روسيا، إن لم نقل إنه سينهي تفردها الطويل، أو على الأقل الحد من قدرتها على اللعب وحدها في متاهات هذه المنطقة.
إزاء ذلك كله، بدا الإعلان عن تأجيل مؤتمر أستانة إلى أجل غير مسمى، بمثابة تحصيل حاصل لكل هذه المتغيرات التي تزاحمت على المسرح الإقليمي في غضون الفترة القصيرة الماضية، حتى لا نقل إن ذلك الإعلان، المفاجئ على ما يبدو لروسيا في المقام الأول، كان بمثابة ورقة نعي لهذه اللعبة الروسية التي سبق أن وصفناها، في وقت مبكر، بأنها قد تتحول نقطة ضعف وإخفاق في سجل الدبلوماسية الروسية، كونها لعبة قائمة على الاستعجال والتفرّد والمراوغة، ولا تتمتع بقوة دفع ذاتية كافية، ناهيك عمّا تواجهه من جدران صد، تزداد، مع الوقت، صلابة، ليس آخرها الحضور الأميركي على الميدان السوري، هذا الحضور الذي يؤسّس لمعادل سياسي بالضرورة الموضوعية.
وعليه، يمكن الحديث، من الآن وبصوت أعلى من قبل، عن نهاية هذا المسلسل الروسي الرديء، المسمى مؤتمر أستانة، بثقةٍ أعمق من السابق، حتى وإن انعقد مرة أخرى في الأيام المقبلة، طالما أن هذا المسار المراوغ فشل في تكريس أي حقائق سياسية كانت منتظرة بعد معركة حلب، وأخفق على رؤوس الأشهاد في إنتاج ما هو أكثر مما تسمى مناطق منخفضة التوتر، وهي خدعةٌ روسيةٌ أخرى مكشوفة، وفضلاً عن ذلك كله، عجزت روسيا عن جعل مسار أستانة بديلاً لمسار جنيف، وهذا هو العجز الروسي الأبلغ وضوحاً في خواتيم هذه اللعبة الماجنة.
(*) كاتب أردني
المصدر