“ذا ناشيونال إنترست”: زعزعة ترامب للخليج العربي


لم يدم ذلك “الناتو العربي” طويلاً، أليس كذلك؟ إن انفصال قطر عن بعض أشقّائها العرب، بما في ذلك جيرانها الأقربون، كان شاملاً على نحو مؤثر، وينطوي على قطع للعلاقات الدبلوماسية وحظرٍ اقتصاديٍ وحظرٍ على التنقل. وهو يعكس الانقسامات الحادة ليس فقط في العالم العربي، ولكن حتى بين المَلكيات الستة التي تشكل مجلس التعاون الخليجي. لقد كان الانفصال تفنيداً مدويّاً للفكر الذي كان ملازماً لزيارة ترامب الأخيرة إلى المنطقة، والقائل بأن الخطوط المهمة للصراع في المنطقة يمكن تحجيمها جميعاً في تقسيمٍ كبيرٍ مبسط، كالخير مقابل الشر، الشيعة مقابل السنة، أو إيران مقابل أي جهة أخرى.

لقد بُنيت الشكوى الظاهرية حول تمويل “قطر” للمتطرفين في الحقيقة على هذا التمويل، لكنه مثال غير مقنع على أن تعيب غيرك بعيبك؛ نظراً لسجلّ السعوديين في تقديم دعمٍ مماثلٍ للمتطرفين. فالتظلّمات الفعليّة التي يوجهها السعوديون وآخرون للقطريين تتعلّق بنوعٍ محدّدٍ مخزٍ من الالتزامات، لا تتشاركها الولايات المتحدة ولا يجب أن تتصرف على أنها تتشاركها.

لطالما كانت رعاية قطر لقناة الجزيرة خنجراً في خاصرة الحكام السعوديين، الذين يبغضون الصحافة الحرّة التي تعالج المواضيع التي تهمّ السعوديين. وكانت الطريقة التي عزل بها والد أمير قطر الحالي والده (في التسعينيات) العمل الذي رأى فيه كبار الملكيين السعوديين سابقةً مقلقةً للأسر الحاكمة في المنطقة، وقاد السعوديين لما قيل إنه تحريضهم لانقلاب في قطر.

كما تعدّ السياسات تجاه “الإخوان المسلمين” معضلةً أخرى؛ فبالتأكيد إنه لمن المضلّل رمي “الإخوان المسلمين” في نفس قُمْع المتطرفين العنيفين، الذين يختلفون كثيراً والذين تتركز عليهم جهود مكافحة الإرهاب. فقد مثّل الإخوان، في أغلب أجزاء المنطقة، نموذجاً مسالماً إسلامياً بديلاً للعنف المتطرف للجهاديين مثل “داعش”. في حين كان الحكام السعوديون حذرين من الإخوان؛ لأنهم يمثلون طريقةً شائعةً لدمج الإسلام في السياسة، تختلف تماماً عن المَلكية المطلقة لأولئك الحكام؛ ولذا فإن جماعة الإخوان تشكل تهديداً للشرعية القائمة على أساسٍ ديني في “آل سعود”.

ويعارض الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” الإخوان لأنهم يمثلون بديلاً شعبياً لحكمه الذي يزداد استبداداً وقسوةً، فقد كان الرئيس المنتخب ديمقراطياً، والذي أطاح به السيسي عبر انقلاب، عضواً في جماعة “الإخوان المسلمين”.

وبالنسبة لحكّام “قطر” فرغم أنهم مثل السعوديين يقودون “ملَكيةً وهابيةً” غير ديمقراطيةٍ إطلاقاً، فإن التعامل مع الإخوان هو قضية اعترافٍ بواقعٍ سياسيٍّ واجتماعيّ. ويذكر المختص بشؤون الخليج العربي Gerd Nonneman”” (جيرد نونمان) من جامعة “جورج تاون” في الدوحة، أنّ علاقة قطر مع الإخوان والتنظيمات الإسلامية الأخرى “لم تقدها قط أيديولوجياتٌ دينيّة، بل بحساباتٍ عملية فإن تلك الحركات ذات تيارٍ اجتماعيٍّ معتبر، وستصبح غالباً جزءاً مهماً من حقبة ما بعد الربيع العربي”.

ثم هناك علاقة “قطر” الطبيعية على الأغلب مع “إيران”، هذا الجانب هو وراء الزوبعة الداخلية لمجلس التعاون، والذي أثار تساؤلاتٍ جادّةً حول طريقة إدارة ترامب الفظّة المبسِّطة لتحديد خطوط الصراع في المنطقة، وموقفها التلقائي الذي لا ينطوي على شيءٍ سوى العداء والمواجهة تجاه “إيران”.

لدى “قطر” أسبابٌ عملية للغاية للقيام بأعمالٍ تجاريّةٍ عاديّةٍ مع “إيران”؛ فالدولتان تتشاركان في أكبر حقلٍ للغاز الطبيعيّ في العالم، وهو مصدرٌ أساسيّ لثروة “قطر” ومكانتها كأكبر مصدرٍ للغاز الطبيعي المسال في العالم. وتستغلّ الدولتان هذا المورد سلمياً، وتتنافسان من حيث الاقتصاد والتكنولوجيا، وليس من حيث الرصاص أو التخريب.

بالنسبة لأولئك الذين يتلون التعاويذ عادةً تجاه تصرف “إيران” “الشائن” في المنطقة، أليس تصرفها تجاه “قطر” والغاز هو ذلك النوع من التصرف الطبيعي السلمي الذي نرغب تشجيعَه؟ وإذا ما كان علينا تشجيعه، ألا ينبغي لنا جميعاً أن نتصرف بنفس الطريقة التي يتحلى بها القطريون بهذا الصدد؟

لكن هذا السلوك لا يحتاج إلى محو أو إغفال الاختلافات الأخرى أو تضارب المصالح. وكما لاحظ “نونمان” فإن موقف قطر تجاه إيران هو موقفٌ عمليٌّ كموقفها تجاه “الإخوان المسلمين”؛ فقطر مثلاً تعارض بشدّة السياسات الإيرانية في “سوريا”، لكنها لا ترى فائدةً من القيام بذلك من خلال محاولة عزل “إيران” كلياً.

كان ردّ “إيران” الفوريّ على الحظر الذي فرضه الأشقاء العرب على “قطر” هو تقديم صادراتٍ غذائيّة، لتعويض التجارة التي عطّلتها “المملكة العربية السعودية” بإغلاق حدودها البرية مع “قطر”. هل سيكون تصدير الغذاء مثالاً آخر على ذلك السلوك الإيراني “الشائن”، “المزعزع للاستقرار” الذي نواصل السماع عنه؟

تثير التجربة القطرية نقطةً مهمّةً أخرى حول النزاع والاستقرار و”إيران”. فكما ذكر العديد من المراقبون بينما كان ترامب يواصل رقصة السيف مع السعوديين والضغط على القطريين، تستضيف “قطر” أكبر قاعدةٍ عسكريةٍ أمريكيةٍ في منطقة الخليج العربي. فإذا كانت العلاقات الطبيعية مع “إيران” لا تمنع دولةً من استضافة منشأةٍ عسكريةٍ أمريكيةٍ كبيرةٍ في الخليج العربي، وفي الفناء الخلفي لإيران، وليس في خليج المكسيك على سبيل المثال، فلماذا نخشى من أيّ أحدٍ يقيم علاقاتٍ طبيعيةً مع “إيران”؟ لماذا نحن متحمّسون لمحاولات عزل “إيران”؟ لا شيء يمكن أن يثبت بشكلٍ أوضح إفلاس الموقف الأمريكي الذي يفترض أن أي تعاملٍ مع “إيران” أو نشاطها سيكون سيئاً بحكم التعريف.

ولا يبرهن شيءٌ على المدى المتطرّف الذي تذهب إليه إدارة ترامب في دفع سياسة العداء المستمر طوال الوقت لإيران أكثر من البيان المريع للبيت الأبيض حول هجوم “داعش” الإرهابي في طهران، حيث يقرأ في مُجمله، “إننا نشعر بالأسى، ونصلّي من أجل الضحايا الأبرياء للهجمات الإرهابية في إيران، وللشعب الإيراني الذي يمر بهذه الأوقات العصيبة. ونؤكد أن الدول التي ترعى الإرهاب تخاطر بالوقوع ضحيةً للشرّ الذي يقومون بدعمه”. وإذا ما قمت باختصار هذا التصريح إلى ما يقارب المئة عنصر وإضافة بعض علامات التعجب، فستبدو كواحدةٍ من تغريدات منتصف الليل الترامبية المتهورة.

أكثر ما يبعث على الانزعاج أنّ هذا كان بياناً رسمياً من البيت الأبيض، أصدره المكتب الصحفي، وهو انعكاسٌ لكيفيّة أنّ التطرف في السياسة الحالية تجاه “إيران” ليس نابعاً فقط من دعوات “دونالد ترامب”، بل أيضاً من أحقادٍ شخصيةٍ في أماكن أخرى ومستويات عالية من إدارته، وبدفعٍ من الحزب للقيام بعكس كل ما فعله “باراك أوباما”، وغيرها من الأسس السيئة نسبياً لبناء سياسة الأمن الخارجية والوطنية.

تقلب لغة “الشرّ الذي يقومون بدعمه” قصة “داعش”، وكيف أنّ “إيران” كانت عدواً لدوداً وليس داعماً لتلك المجموعة وأمثالها من المجموعات الإرهابية، بأسرها رأساً على عقب. لكن القسوة والجهل في بيان البيت الأبيض لهما آثارٌ أبعد من السياسة تجاه “إيران”.

تخيلوا فقط ما كان سيكون عليه ردّ فعلنا لو أنّ أي حكومة أخرى أدلت بتصريح مشابهٍ لـ “لقد استحقوا ذلك”، ردّاً على هجومٍ إرهابيٍّ على أية حكومة من قبل أي جماعة. ردّ الفعل غالباً سيكون أنّ الحكومة التي أدلت بالتصريح تتغاضى عن الإرهاب على نحوٍ غير مسؤول. بالنسبة للولايات المتحدة فإن الإدلاء بتصريحٍ مماثل يضعها في مقارنةٍ خاسرةٍ مع “إيران” التي قامت بردّ فعلٍ مسؤول بالتعاطف والدعم عقب أخطر هجوم إرهابي في الولايات المتحدة.

يحبّ “دونالد ترامب” أن يستعرض كقائدٍ في الحرب على الإرهاب، كما فعل خلال زيارته الأخيرة للمنطقة. لكن أي شخصٍ يصرّح بأن هدف هجومٍ “داعشيٍ” قد استحقّه، ليس مؤهلاً ليكون ذلك القائد.

 فالجميع، باستثناء مثيري المتاعب من المتشددين، مهتمون بتخفيض التّوتر والصراع في الخليج العربي بدلاً من التصعيد. بما في ذلك الولايات المتحدة ودول “مجلس التعاون الخليجي” والاقتصاد العالمي. وليس قادة “قطر” هم من يدركون ذلك فحسب، فقد حافظت “سلطنة عمان” بعنايةٍ على علاقاتٍ سلسةٍ مع جميع جيرانها بما في ذلك “إيران”، وحاولت “الكويت” أن تفعل ذلك أيضاً في معظم الأحيان، وهؤلاء يشكلون نصف دول “مجلس التعاون الخليجي”. وحتى السعوديون، عندما لا ينهمكون في الاهتمامات قصيرة الأمد مثل القادة الجدد الذين يحاولون وضع آثارٍ لهم، ينظرون من وقت لآخر إلى قيمة التقارب مع “إيران”.

لقد كانت هناك فرصةٌ خلال الأشهر القليلة الماضية، بناءً على اقتراح “مجلس التعاون الخليجي” للحوار الذي حمله وزير الخارجية الكويتي إلى طهران، من أجل التّخفيف من حدّة التوتر عبر شاطئي الخليج. وقد حظي الاقتراح بقبولٍ جيدٍ في إيران. وقد أعرب الرئيس “روحاني” الذي عُزّزت ولايته بعد انتصارٍ ساحقٍ، عن استعداده للمناقشة دون شروطٍ مسبقة لكامل نطاق الخلافات بين إيران وعرب الخليج. وكانت “إيران” و”المملكة العربية السعودية” قد أجرتا، في وقت سابق من هذا العام، محادثاتٍ وصلت إلى حلٍّ وسط لحلّ بعض الخلافات بشأن الحجاج الإيرانيين الذين يحجّون إلى مكة.

ثم جاء “دونالد ترامب” ليبعث رسالةً ليست عن التقارب والمصالحة، ولا عن حاجة البلدان التي تعيش في الجوار نفسه ولن تذهب إلى أيّ مكانٍ آخر، إلى تشارك ذلك الجوار، بل بدلاً من ذلك رسالةً عن القتال والعدائيّة والعزل. لقد كان يطالب ويدعم أسوأ الميول الأكثر محدوديةً لدى السعوديين وغيرهم، ويعارض الميول المستندة إلى حكمٍ أفضل.

لم يبدأ ترامب التحرك الذي قادته “المملكة العربية السعودية” ضدّ “قطر”، لكنه كان موضع تشجيعٍ من قبله (ليس فقط لتبجّحه بمسؤوليته عن ذلك)، فذلك الخليط غير المتجانس من نغمة المناهضة لإيران والمناهضة للإخوان المسلمين، كان أشبه ما يكون بالمعزوفة التي كان يغنيها ترامب. فقد كانت جميع القضايا المتعلقة بجماعة “الإخوان المسلمين” وغيرها من النزاعات داخل دول “مجلس التعاون الخليجي” موجودةً منذ فترة طويلة، وليس من قبيل الصدفة أن يتمّ التحرّك ضد الدوحة في هذا التوقيت.

من المنظور الضيق لـ “دونالد ترامب” عندما تُسبب له خطوط الصراع المرسومة ببساطة (الشر والخير، والرابحون والخاسرون) المشاكل لأن الواقع أكثر تعقيداً، يكون ردّه المعتاد برسم خطوطٍ أضيق.

شيءٌ من هذا كان ما حصل في الخليج العربي. ففي وقت زيارته كانت الصورة المكبّرة هي لتحالفٍ كبيرٍ ينضمّ إلى العداء الأزليّ تجاه قوى الشر، حيث “إيران” هي مركز هذه القوى. وعندما فرض الواقع الأكثر تعقيداً نفسه في معضلة “قطر”، كان توجّه ترامب الفوري إلى تضييق خطوط الصراع أكثر وإبقائها بنفس البساطة، والاصطفاف إلى جانب السعوديين وانتقاد القطريين.

هناك تناظر بين كيفية استجابة ترامب للتحدّيات الداخلية وداخل إدارته، بالتضييق دائماً وإبعاد أولئك الذين ربما كان قد مدحهم من قبل، لكنّهم لم يعودوا يتوافقون مع الرؤية البسيطة. إذا كان من الواجب على “قطر”، على الرغم من القاعدة العسكرية الأمريكية، أن تسير على طريقة “كريس كريستي” و”ميشيل فلين”، فمن وجهة نظر ترامب عليها أن تفعل ذلك.

لطالما وجد الجدل في واشنطن (خصوصاً الحزبي وتراشق اللوم)، طريقةً لإرجاع الصراع والاضطراب في الشرق الأوسط إلى هذا الرئيس الأمريكي أو ذاك. وغالباً فإنه كما ينطبق على الأحداث في المناطق الأخرى، فإن إرجاع أحداث الخير أو السوء لرئيس الولايات المتحدة يُبالغ فيها. لكنه ليس من المبالغة أن موقفاً يؤجج التوتر والانقسام بدلاً من تخفيفه، ويناصب العداء الأزلي لدولةٍ رئيسيّةٍ في المنطقة، ويفسد فرص التقارب في المنطقة، ويتخلى عن فرص “الولايات المتحدة الأمريكية” بشتم الاتفاق النوويّ مع “إيران”، ورفض البناء عليه في معالجة قضايا أخرى، يجعل الوضع الأمنيّ في الخليج أسوأ. هذا سيئٌ بالنسبة لسكان الخليج وبالنسبة للولايات المتحدة.

المصدر: “ذا ناشيونال إنترست” (the national interest)

الكاتب: PAUL PILLAR

 الرابط: http://nationalinterest.org/blog/paul-pillar/trumps-destabilization-the-persian-gulf-21085




المصدر