في اختبار جيش بوتين السوري


حيّان جابر

انتقل الحاكم الفعلي لسورية (روسيا)، بعد فترة زمنية قصيرة نسبيًا، من الإعلان الرسمي لتشكيل الفيلق الخامس في نهاية عام 2016، إلى مرحلة المجاهرة بتبعية هذا الفيلق لإدارته المباشرة، فقد أُعلن عن المميزات المالية والقانونية الممنوحة لمن يلتحق به، كما أن المحتل الروسي يستخدم مكاتب حزب البعث بهدف الترويج لحملة التطوع وبرواتب مغرية (تبدأ بـ 200 دولار شهريًا)، فضلًا عن العديد من التعويضات المالية لموظفي القطاع العام.

فما الهدف الروسي من المبادرة إلى تشكيل الفيلق الخامس، ومن المجاهرة اليوم في إدارته وتكوينه؟ وهل ينجح الروس في تشكيل وبناء هذا الفيلق الخامس، أم أن الفشل سيكون حليفه أسوة بغيره من المحاولات؟

للإجابة عن هذه التساؤلات، لا بدّ من التطرق أولًا لاتفاق مناطق “خفض التوتر” الموقّع بين الدول الفاعلة في الشأن السوري أي الأتراك والإيرانيين والروس، وهو ينص على وقف الأعمال القتالية في أربع مناطق سورية مُتّفق عليها بين الدول الضامنة، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى هذه المناطق، وضمان حركة المدنيين من وإلى هذه المناطق دون أي مخاطر ومعوقات بما فيها خطر الاعتقال التعسفي، وذلك بعد تقاسم المناطق الأربعة بين الدول الضامنة، بحيث تقوم كل دولة بإدارة ومراقبة تنفيذ الاتفاق في مناطقها وبشكل كامل، مع فتح الباب أمام مشاركة دول أخرى بشرط حصولها على موافقة الدول الضامنة جميعها، سواء في المرحلة الأولى من الاتفاق أو في المرحلة اللاحقة التي تأمل من خلالها الدول الضامنة إلى زيادة عدد المدن والبلدات السورية المنضوية ضمن الاتفاق.

سيُكرّس الاتفاق السابق السيطرةَ الدولية والإقليمية على الشأن السوري، وعلى مختلف المستويات الإنسانية والاقتصادية والأمنية والعسكرية؛ ما دفع البعض إلى عدّه اتفاقًا على تقاسم النفوذ والسيطرة على سورية، الأمر الذي يستوجب من القوى المحتلة للأراضي السورية الدفع بفرقها العسكرية الميدانية، تحت ذريعة حماية الاتفاق الموقّع وضمان تنفيذ بنوده كافة، بينما هي تحمي مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية بشكل غير مباشر، وهو ما يتطلب تغييرًا في طبيعة التدخل الروسي الذي حاول على مدار سنوات الثورة السورية تجنّب الانخراط المباشر والميداني، بغية الحد من التبعات المباشرة لأي تدخل ميداني، بينما لم يتوان الإيرانيون والأتراك عن الانخراط المباشر في المعارك الميدانية الدائرة، فضلًا عن تشكيل إيران لكتائب وميليشيات تابعة لكل منهم وممولة من قبلهم، سواء من السوريين أنفسهم أو عبر الاستعانة بمرتزقة خارجية لبنانية وعراقية وأفغانية وغيرها من الجنسيات. تبدو الحاجة الروسية اليوم إلى الدفع بقوى عسكرية ميدانية، لحماية مصالحها المستهدفة من وراء تدخلها في الشأن السوري، أكثر إلحاحًا من قبل، على خلفية استمرار الإدارة الأميركية في منح الروس التفويض السياسي والميداني لإدارة الشأن السوري أو الأزمة السورية، دون المساهمة في تقويض المطامح الدولية والإقليمية المختلفة في سورية، ليقع على عاتق الإدارة الروسية التصدي أو التوفيق بين مختلف أو غالبية المطامح الدولية والإقليمية حول سورية. فالرغبة في الاستفادة من الضوء الأخضر الأميركي أو من الانشغال الأميركي في ترتيباته الداخلية وترتيباته الإقليمية، وخصوصًا المرتبط بخطر التمدد الصيني، هو ما بات يفرض على الإدارة الروسية الإسراعَ في فرض وتثبيت دعائم مشروعها المستقبلي والحالي.

ونظرًا لأهمية الربط بين المصالح الدولية والحل السياسي في سورية، وخصوصًا المصالح الروسية، كونها الطرف الأقوى والأبرز دوليًا، يمكن استنتاج بعض الخيارات الميدانية الروسية (القليلة أساسًا) التي تتفاوت إيجابياتها وسلبياتها:

1 – الاستمرار في الاستعانة بالقوى والمليشيات الإيرانية والميليشيات الخاضعة للإرادة والإدارة الإيرانية، بغض النظر عن طبيعتها وممارساتها الطائفية والإجرامية، كونها تحد من تحمّل الروس للتكاليف الباهظة المادية والبشرية المترتبة على احتلالهم للأراضي السورية أو لجزء منها، بينما ينطوي هذا الخيار على تبعات سلبية، تحدّ من تحقيق الطموحات الروسية في سورية والمنطقة، وربما في العالم، نظرًا لما يترتب عليه من منح الإيرانيين ورقة ضغط لا يُستهان بها على الجانب الروسي تُمكّنهم من المساومة والمناورة في صياغة الحل النهائي أو الترتيبات النهائية لسورية والمنطقة نسبيًا.

2 – يملك الروس خيار استبدال الميليشيات المنضوية تحت العباءة الإيرانية بالكتائب المسيطر عليها من تركيا، إلا أن خيار الاعتماد الميداني على الأتراك فيه مخاطرة أكثر من الخيار الإيراني، كونه انتقال في التعويل على طرف جديد دون اختباره سابقًا. الخيار التركي -بغض النظر عن مدى جدية الروس في المضي قدمًا بهذا الخيار، ومدى تعويل الروس عليه في المستقبل- يمنح المحتل الروسي هامشَ مناورة جيدًا مع الإيرانيين.

3 – يملك الروس خيار الاحتلال التقليدي المباشر، عبر القوات الروسية النظامية والخاصة (وكالات أمنية خاصة تحاكي التجربة الأميركية في العراق)، وهو الخيار الذي يضمن للروس مزيدًا من الاستقلالية والثقة على المدى القصير والبعيد، إلا أنه يضع الروس في مواجهة مباشرة مع جميع القوى الممثلة لمصالح القوى الإقليمية والدولية التي ستُصعّد من هجماتها المباشرة وغير المباشرة، من أجل الضغط على الروس؛ كي يراعوا مصالح باقي الأطراف الدولية في سورية، كما أن خيار الاحتلال المباشر سيضع القوى الروسية العسكرية في مواجهة مباشرة مع أي حركة مقاومة سورية منظمة أو فردية، تحاول التصدي لهم مستقبلًا.

4 – أخيرًا، يبرز خيار بناء جيش روسي جديد قوامه السوريون أنفسهم، وتقوم روسيا بتجربته اليوم من خلال رعايتها الكاملة لتشكيل الفيلق الخامس، مما يضمن للروس تقليل الاعتماد على ميليشيات وقوى منضوية تحت عباءات إقليمية مختلفة، كما يحد من فاتورة الاحتلال الباهظة البشرية منها والمادية، حيث يقتصر التواجد الروسي الفعلي وفقًا لهذا الخيار على مجموعات صغيرة نسبيًا من الخبراء والمدربين والقادة العسكريين الروس، ليصبح القيام بعمل عسكري مُقاوم لواقع الاحتلال الروسي في غاية الصعوبة، نظرًا لندرة التواجد الروسي ميدانيًا، ونظرًا للترتيبات الأمنية بالغة التعقيد المرافقة لتواجد الخبراء والقادة العسكريين الروس؛ مما يجعل السوريين هم الحامي الرئيس لضمان المصالح الروسية ولتثبيت الاحتلال الروسي.

لكن، هل خيار روسيا في بناء جيش سوري مسيطر عليه من قبلها أمرٌ قابل للتحقيق؟

يُعوّل الروس على جملة من العوامل لنجاح هذا الخيار، أبرزها ارتفاع معدلات الفقر والبطالة في أوساط السوريين الموجودين داخل الأراضي السورية، والمترافق مع ندرة فرص العمل في ظل استمرار مظاهر الحرب والدمار والخراب التي قد تدفع بعض السوريين للبحث عن أي مصدر مالي يعينهم على تلبية متطلبات الحياة، كما يُشكّل طوق نجاة لشريحة من السوريين للخلاص من قسوة الحرب، من خلال التعلق بأي بصيص أمل –من وجهة نظرهم- قد يُنهي سنوات العذاب والقهر والدمار، ولا سيما بعد سنوات من التعويل على جيش النظام وحلفائه الطائفيين، كما تعوّل روسيا على الانطباع الذي سعت لتكريسه كضامن وحيد لحماية النسيج الاجتماعي السوري ولحماية وحدة الأراضي السورية، على اعتبار أن الإدارة الروسية لا تنخرط في تأجيج النزعات والصراعات الطائفية الموجودة اليوم، ولا تعارض أي حل سياسي، يكفل وحدة الأراضي السورية، ويلبي مصالح وتطلعات جميع مكونات المجتمع السوري، وذلك وفقًا للادعاء الروسي الإعلامي والسياسي، على الرغم من القناعة العامة الراسخة بعكس ذلك.

لكن، بالمقابل، يبرز على الطرف الآخر مجموعة كبيرة من المعوقات والعقبات أمام جميع الخيارات الروسية المذكورة سابقًا، وخصوصًا الخيار الأخير -خيار بناء جيش سوري ممثل لروسيا- فمعاناة السوريين من الاحتلال الروسي منعت كثيرين من الالتحاق بالكتائب المسلحة المعارضة والميليشيات والكتائب الموالية الموجودة، أو المزمع إنشاؤها مثل الفيلق الخامس، نظرًا لاعتبارها قوى تُمثّل الأطراف المحتلة للأراضي السورية، وتعمل على تحقيق مصالحها الخاصة دون أدنى اعتبار لمصالح وأوضاع السوريين، وهو ما يُشكّل بارقة أمل من أجل بناء قوى سورية وطنية تضع على رأس أولوياتها مجابهة شتى أنواع وأشكال الاحتلال والاضطهاد، الأسدية منها والدولية والإقليمية، والتي يجب أن تعمل من أجل إعادة الاعتبار لأهداف وغايات الشعب السوري في بناء وطن جامع لأبنائه، على قاعدة العدالة والمساواة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعلى أسس تكفل المساواة في المسؤولية والحقوق، وتكفل بناء دولة قوية ومستقلة ومتطورة علميًا واقتصاديًا وسياسيًا.




المصدر