هل نشتري الأخلاق؟!
22 حزيران (يونيو - جوان)، 2017
ميخائيل سعد
وأنا في قاعة المغادرين، في مطار انطاكية، جلس إلى جانبي رجل خمسيني سوري، قوي البنية، كان يتكلم بصوت عال مع أحد معارفه السوريين، عن مشروع تجاري ينوي القيام به، ولكن ينقصه نحو عشرة آلاف يورو، وهو بحاجة إلى شريك أخلاقي، قبل حاجته إلى شريك مالي، وفهمت من ردود الرجل أن المتحدث إليه طلب من الرجل أن يحضر إلى مكتبه كي يراه ويناقشا المشروع وحاجاته المالية وجهًا لوجه، إلا أن رجل المطار تأسف لعدم قدرته على الحضور إلى مكتب الآخر، كونه الآن في المطار، وبعد قليل سيصعد إلى الطائرة.
كان يمكن لمستمع غير فضولي مثلي، أن يُصدّق ما قاله الرجل لصديقه، من وراء شاشة هاتفه النقال، رغم حركات جسده وعينيه ويديه التي لا توحي بالثقة والصدق، ولكن المحادثة الهاتفية التالية للرجل مع شخص آخر، دفعت شخصًا مثلي غير مبال بكلام الناس وسماعه، إلى التنصت، ومحاولة سماع كل الكلام، مستفيدًا من محاولة السوريين “كسر حاجز الصمت”، والانتقال إلى “الصراخ” أثناء تبادل “همسات الحب” والأعمال العسكرية وخططها التي تتطلب السرية القصوى، أثناء الإعداد للهجوم. ولكن ما جعلني على يقين نسبي أن الرجل يلعب دور “النصاب” هي المكالمة الهاتفية الثالثة، ونحن على متن طائرة صغيرة، يتسع “كرشها” لابتلاع نحو 250 راكبًا.
كان الركاب يبحثون عن أماكن جلوسهم، ثم يحاولون وضع حقائبهم الصغيرة في الأماكن المخصصة لها، لتحرير أيديهم من الأغلال التي تقيدها، إلا صاحبنا السوري الذي كان الأسرع في الوصول إلى مكانه والجلوس فيه، ومن ثم إخراج هاتفه النقال. من سوء حظي أنه كان في صف الكراسي الموازي لمكان جلوسي. مرة أخرى كان صوته عاليًا وكل جيرانه في المقاعد الأمامية والخلفية وعلى الجانبين، يستطيعون، رغمًا عنهم، سماعَ ما يقوله. كان هذه المرة يتحدث عن “ثورتنا المباركة” التي تحتاج إلى الخطط العظيمة لاستنهاضها، ودفع الناس للتبرع بالأموال والأنفس من أجل الوصول إلى الهدف الأسمى، وهو “رضى الله”، ولم ينس أن يقول لمحدثه أنه كان اليوم في “مخيم الضباط”، وبعده عند “الوالي” الذي وعد بتقديم الدعم لمشروعهم، وأنه كان حاضرًا بتوجيهاته ودعواته. ولم يعد ينقصنا إلا الأخلاق! وكانت عيناه، وهو يتلفظ بالأخلاق، تكاد تلتهم كل موجودات الطائرة.
رغم محاولاتي المتعددة للابتعاد عن الحديث عن الثورة وعذابات السوريين أثناء رحلتي إلى انطاكية والريحانية، إلا أن كلام رجل الطائرة، الذي كان يتاجر هاتفيًا بكل شيء، قد جعل ذاكرتي الضعيفة تنشط، وتستيقظ من نومها لتسترجع بعض ما سمعت ورأيت عن عذابات السوريين، نتيجة “قلة الأخلاق” والجوع والتجارة بمشاعر الناس الدينية والقومية والإنسانية.
سمعت من بشر ليسوا بحاجة إلى الكذب:
1- أن رجلًا من اللاجئين إلى الريحانية، لا يكاد يُغادر مقاهيها، قد هدد ابنَه البالغ من العمر 14 عامًا، بأنه إذا عاد إلى البيت قبل أن يبيع كلّ الكعك الذي معه، سيذبحه، فعلًا وليس مجازًا. وأن الطفل عمل كل النهار ولم يستطع بيع كمية الكعك، وقد بقي في صينيته ما قيمته خمس ليرات تركية عندما دخل إلى مكانٍ، فيه سوريون بالغون، وحاول بيعهم ما معه، وعندما فشل في ذلك، بدأ بالبكاء وعرض جسده عليهم، وشارحًا لماذا هو مضطر لفعل ذلك، وإلا فالموت أو العذاب بانتظاره في البيت على يد والده.
2- قامت امرأة بحرق طفلتها الرضيعة عمدًا للشحاذة عليها، وقد تم ضبط مجموعة من الأدوية التي جمعتها من العيادات لبيعها، وليس لعلاج ابنتها المحروقة.
3- في أحد المستشفيات الميدانية، بُترت ساق أحد الأطفال بعد إصابته، جرّاء قصف منزل أهله في منطقة إدلب، ونُقل إلى تركيا للعلاج على حساب إحدى المنظمات الأوروبية، ووفّرت له ساقًا اصطناعية. ولكن المراهق سرعان ما تعلم (بواسطة آخرين) أن التجارة بعاهته أجدى، فخلع ساقه ورماها في البيت، وتحول إلى الشحاذة التي حققت له دخلًا جيدًا استطاع بواسطته استئجار بيت له، لممارسة أنشطة أخرى.
4- رأيت -شخصيًا- عائلةً سورية مُكوّنة من تسعة أطفال، تعيلهم أمهم بعد أن تركهم والدهم، وهرب مع امرأة جديدة.
5- رأيت أطفالًا في العاشرة من العمر، لا يعرفون الأعداد من واحد إلى عشرة، ولا يعرفون معنى كلمة مدرسة أو صف مدرسي أو كتاب.
أوردت هذه الحالات، ليس لأنها حالات فردية، وإنما لأنها نماذج عن حالات كثيرة منتشرة في أوساط اللاجئين السوريين، ولأقول أيضًا إن المؤتمرات -مع عدم التقليل من قيمتها- لا تُشبع بطنًا جائعًا ولا تُعلِّم طفلًا، ولا تمنع اغتصاب الأطفال، أو المراهقات السوريات لقاء 20 ليرة تركية. قد يقول قائل: ولكن المأساة السورية كبيرة، وهي تحتاج إلى دُول لحلها، وإذا كان هذا الكلام صحيحًا، فليس من السليم والصحيح أن نُغض الطرف عن سلوك هذا السياسي أو ذلك العسكري أو رجل الدين، أولئك الذين يتاجرون بقضيتنا وبوطننا وبناسنا وأطفالنا تحت رايات وأسماء متعددة.
نحن بحاجة إلى الأخلاق قبل السلاح، ولكن لن نستطيع شراءها كما نشتريه، بل نستطيع تعليمها، عبر تقديم الأمثلة الحية، من خلال سلوكنا الفردي أولًا.
[sociallocker] [/sociallocker]