الحدود السورية – العراقية: مصير سورية من مصيرها


الحياة

ما تشهده الحدود السورية – العراقية في جانبها السوري من عمليات عسكرية يعيد الاعتبار إلى أهمية هذه الحدود، وإلى كونها مدخلاً من مداخل فهم تاريخ المشرق. فمن هناك، وعلى عكس التصور السائد، بدأت فكرة العروبة، بنسختها الكلاسيكيّة ما قبل البعثيّة والناصريّة بالتكسّر، وفي تلك المنطقة واجهت العروبة أحد أول تحدّياتها أمام وقائع التاريخ والاجتماع المشرقيّين. وقد جاء هذا الاصطدام بالواقع في مرحلة مبكّرة، إذ ظهر أثناء العهد الفيصلي القصير، تحديداً في الفترة ما بين 1918 و1920، ذاك أنّ السياسة التي اتبعتها الحكومة العربية في دمشق تجاه القسم الجنوبي من الحدود أظهرت انقسام تلك الحكومة، أي الفريق العروبي المرافق لفيصل، إلى فريقين، عراقيّ وسوريّ. ولم يكن ذاك الانقسام محصوراً باختلاف التوجهات السياسية، إذ لاحت ميول كيانيّة في أهداف الفريقين، لا سيما العراقيّ، الذي كان مهتماً بالسعي إلى استقلال العراق انطلاقاً من المنطقة الحدودية. ومن جهة أخرى، انعكس ذلك الانقسام على ضباط الجيش، ولاحت بوادر الاختلاف بين الضباط السوريين والعراقيين، وقد تكون فكرة تشكيل الجيوش الوطنية قد نشأت من هنا، كدلالة على تطور في الوعي السياسي جعل من الوطن والكيان أولويّة على الحلم الرومانسي بالوطن الأكبر والجيش الواحد المشترك.
من جهة أخرى، بدا كأنّ العروبيين قد اكتشفوا ضعف العروبة في مخاطبة السكان المحليين للمنطقة الحدودية، إذ اعتمدوا في دعايتهم وخطابهم تجاه القبائل وزعمائها على اللّعب على وتر الهويّة الدينيّة، وبهذا كان مصطلح «الجهاد» ضد البريطانيين أكثر تأثيراً وفعاليّة من مصطلح «العروبة» نفسها، وذلك على رغم أنّ استجابة أولئك السكان لم تكن ثابتة أو مضمونة، إذ فضّلوا في أوقات كثيرة التعايش مع الانتداب على الإذعان لسلطة العروبيين.
ولعلّ هذا الأمر إحدى الدلالات المبكّرة على أنّ الهويّة العروبيّة هي هويّة مختلَقة لا تستطيع منافسة الهويّات الصغرى للجماعات المختلفة في سورية.
بيد أنّ انكسار العروبة كان في طريقه الى الاكتمال في الجانب الشمالي من تلك الحدود، ففي السنوات الأولى للانتداب الفرنسي، التي شهدت بداية ترسيم الحدود، نشأت المسألة الكردية كنتيجة أولى لعملية الترسيم تلك، وذلك بعدما «عَلِقَ» الأكراد في فخّ الكيان السوري، وفق تعبير بنجامين وايت، ومن ثمّ تحوّلهم إلى «قادمين جدداً» و»لاجئين» في الإقليم الذي يعيشون فيه، الأمر الذي ساهم فيه كلّ من تركيا والانتداب البريطاني بتسهيل من فرنسا، وبهذا تأكّد الدور الحيوي للحدود في نشوء مسألة الأقليات. وهنا، كانت بداية مأساة الأكراد السوريين، الذين باتوا أمام خيار الاندماج في كيان تحكمه حكومة مركزيّة في دمشق، تشكّل العروبة أحد أعمدتها السياسية، الأمر الذي فرض على الأكراد التحدّي الكبير على مستوى هويّتهم القومية.
على أنّ أكثر الجوانب مرارة في تلك المأساة هو التهميش الذي تعرضت له المسألة الكردية من جانب الفرنسيين، الذين تجنّبوا إدراجها في متن مسألة الأقليات التي كانت تقوم سياستها الداخلية والخارجية عليها، ولعلّ هذا كان سبباً أولياً في الجهل المُعيب الذي يغلب على معظم السوريين تجاه المسألة الكردية.
ولئن كانت مسألة الحدود مع العراق امتداداً إلى الجانب التركي قد ساهمت في تعميق الشعور الكياني عند جميع الأطراف، وذلك على رغم حساسية تلك الحدود واختلاف كل طرف في شأنها، إلا أنّها بقيت مدخلاً رئيسياً لسياسات المشرق، فانتقلت من كونها مدخلاً نحو الأوطان والكيانات ومسألة الأقليات في العشرينات، لتتحول إلى ورقة سياسية بيد نظام الأسد. فعدا عن عقود من ابتزازه الأتراك بالمسألة الكردية وعلى حساب مصير الأكراد السوريين، جعل النظام من تلك الحدود منطلقاً أساسياً للتلاعب بأمن المنطقة، عندما استخدمها كمركز لانطلاق النشاط الجهادي والإرهابي وسهّل وصول الإسلاميين إليها. واليوم، تنتقل هذه الحدود إلى طور مختلف، لتشكّل عصباً حيوياً للمشروع الإيراني في المنطقة.
هكذا يمكن فهم كثافة العمليات العسكرية الحاصلة على طرفي تلك الحدود، والصراع للسيطرة عليها بين القوى الإقليمية المتدخلة في المسألة السورية، وهذا ما يدعو، على المستوى السوري الوطني، لإيلاء أهمية لفهم مسألة الحدود، بما فيها من جماعات مختلفة، باعتبارها مفتاحاً من مفاتيح استقرار الكيان السوري، إذا ما كُتب له أن يبقى.
(*) كاتب سوري




المصدر