فورد بعد راند


خضر زكريا

بعد أقل من شهر على صدور تقرير مؤسسة (راند) “مستقبل العلاقات الطائفية في الشرق الأوسط”، وقد قدمتُ قراءة له في (جيرون) 8 حزيران/ يونيو 2017، التقرير الذي يشير، بين مسائل أخرى، إلى تماسك “المعسكر الشيعي” بزعامة إيران، مقابل تفكك “المعسكر السني” في إطار الصراع الدائر في المنطقة، طلع علينا روبرت فورد، آخر سفير أميركي لدى سورية، وقد أصبح باحثًا في (مركز الشرق الأوسط) للأبحاث في واشنطن ومدرسًا في جامعة ييل، بعد تخليه عن مهماته في سورية، طلعَ بمقابلة يؤكد فيها أن الإيرانيين سيدفعون الأميركيين إلى الانسحاب من سورية، كما انسحبوا من لبنان والعراق. وأن الأميركيين لم يكونوا على استعداد لإرسال الجيش لمساعدة السوريين؛ ما يعني “أننا أعطينا السوريين أملًا زائفًا” على حد تعبيره.

نُشرت المقابلة في جريدة (الشرق الأوسط) اللندنية بتاريخ 19 حزيران/ يونيو 2017، وأعادت نشرها مواقع إلكترونية عدة. وجاء فيها كلام كثير عن زيارة السفير الأميركي السابق إلى حماة وغيرها من المناطق السورية، في أثناء الأشهر الأولى من الثورة، وعن نصائحه التي لم تأخذ بها إدارة أوباما، ونصائحه للمعارضين السوريين الذين لم يعبؤوا أيضًا بتلك النصائح. وفي إيضاح لموقف الإدارة الأميركية من المسألة السورية، وتبرير له، يقول فورد: “تناقشت كثيرًا مع معارضين. قلت للجميع: بعد حرب العراق، لن يأتي الجيش الأميركي لمساعدتكم. قلت للناس في حماة: ابقوا سلميّين. لو حصل عنف فلن يأتي الجيش الأميركي. بعض الناس سمع رسالتي، لكن ليس كل الذين قلت لهم”؛ ما يعني كان هناك تشجيع حتى لو لم يكن مقصودًا.

في المقابلة، حاول فورد تبييض صورته أمام الرأي العام السوري والعربي، وربما إسكات صوت ضميره الذي يلح عليه بأنه لم يفعل كل ما كان يجب عليه فعله. إذ يكرر القول إنه حذّر هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية، ثم البيت الأبيض من مغبة الدعوة إلى تنحي الأسد، من دون وجود إرادة حقيقية لإرغامه على التنحي. “لكن الضغط السياسي على أوباما في واشنطن كان رهيبًا. كان هناك انتقاد من الجمهوريين والديمقراطيين، وانتقاد من السوريين الأميركيين، انتقاد من دول عربية ودول أوروبية ومن الإعلام الأميركي”، على حد قوله. وبسبب هذا الضغط الرهيب، لم يطلب السفير أن يحذف أوباما من خطابه الدعوة إلى تنحي الأسد، على الرغم من أنه كان يعرف تمامًا أن الأسد لن يتنحى، وأن الولايات المتحدة لن تفعل شيئًا لإرغامه على ذلك. يقول فورد حرفيًا: “كان يجب أن أقول للمسؤول الرفيع: إذا لم تكونوا قادرين على تنفيذ التصريح، يجب التزام الصمت”.

كتبتُ مرة (جيرون 12 كانون الثاني 2017): “هل كان على الثوار أن يعرفوا مسبقًا أن (إسرائيل) ومناصريها في العالم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، لن يسمحوا بإقامة نظام ديمقراطي على أنقاض نظام الأسد؟ وأن إيران وميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية وغيرها سترى في الثورة فرصةً للانقضاض على الشعب السوري، وتهجيره للحلول محله، وتكريس النفوذ الإيراني شرق المتوسط كله؟ وأن روسيا ستجد في احتمال سقوط نظام الأسد فرصة للتدخل، ولإعادة فرض نفسها كقوة عظمى، تساوم الغرب على مصالحها في العالم كله من خلال إمساكها بأوراق الحل السوري؟”. تبين أن الولايات المتحدة الأميركية نفسها لم تكن تتوقع ما حصل: يقول روبرت فورد جوابًا على أحد الأسئلة: “نعم. هذا أكبر خطأ سياسي ارتكبته. لم أكن أتوقع أن ترسل إيران و(حزب الله) آلاف المقاتلين. لم أكن أتوقع أن يضحي (حزب الله) بسمعته في العالم العربي لأجل الأسد. كنت أعتقد أنهم سيفاوضون على ائتلاف سياسي أولًا. هذا أكبر خطأ سياسي ارتكبناه. لم نكن نتوقع ذلك مطلقًا”. وفي مكان آخر يقول فورد إن الأميركيين لم يكونوا يتوقعون تدخل روسيا أيضًا بالشكل الذي تدخلت فيه.

مما كشفت عنه المقابلة، أن فورد حاول في أيار/ مايو 2012 إقناع ديفيد بتريوس، مدير وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه)، وهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية، بضرورة تسليح المعارضة، لتتمكن من مواجهة جيش الأسد وحلفائه، وأن بتريوس وكلينتون رفعا المقترح إلى أوباما؛ لكن أوباما “لم يرفض، بل وضع التوصية في الدرج. في الثقافة الأميركية يعني ذلك الرفض”. كما أوضح فورد. وعلى الرغم من بدء برنامج متواضع لتسليح المعارضة عام 2013 كانت السلطات الأميركية مقتنعةً بأن الأسد باق. ولذلك طلب فورد من المعارضة قبول حل يتضمن إقناع الأسد بتغيير رؤساء الاستخبارات الجوية والعسكرية والأمن السياسي والاستخبارات العامة. و”إذا تغير رئيس المصرف المركزي ووزير المال، وعُيَّن مستقلون بدلًا منهم من دون سيطرة الأسد، يمكن قبول بقائه. يا إلهي! كانوا يقولون: هذا مستحيل”.

هكذا إذن. رفض المعارضة القبول بمثل هذا الحل هو الذي أدى إلى النتيجة النهائية التي يتوقعها فورد، كما توقعتها راند قبله: “الأسد ربح. إنه منتصر، أو هو يعتقد ذلك. ربما خلال عشر سنوات سيأخذ كل البلاد. لن يُحاسَب النظام على السلاح الكيماوي والقتال والتعذيب و”البراميل المتفجرة” واللاجئين والنازحين. لا محاسبة. ربما الأسد لن يزور باريس أو لندن، لكن لن يذهب أحد إلى دمشق لأخذ مسؤولي النظام إلى (محاكمة) في لاهاي؟ لا أحد. ربما سيأخذ النظام بعض الوقت كي يستعيد درعا. عاجلًا أو آجلًا سيذهب إلى إدلب. سيساعده الروس وسيذهب إلى القامشلي، ويعقد اتفاقًا مع إيران وتركيا لتدمير الأكراد”.

لعل أخطر ما في كلام فورد تأكيده أن “الهلال الإيراني” موجود ولن يتراجع: “هناك (هلال إيراني) وهو موجود ولا يمكن هزيمته شرق سورية. النفوذ الإيراني يأتي في سورية من غرب سورية ومطار دمشق، والعلاقة بين طهران ودمشق والدعم الذي تقدمه إيران إلى النظام في دمشق”. وعندما سئل عن هدف ترامب النهائي، أجاب فورد: “يريد تقليص النفوذ الإيراني هكذا سمعت من أحد مستشاري ترامب قبل أسابيع، لكن لا يعرف أن اللعبة انتهت. تأخروا كثيرًا. أوباما لم يترك لإدارة ترامب الكثير من الخيارات لتحقيق هدفها”.

كل شيء واضح إذن: الأسد سيسيطر على كامل سورية. والنفوذ الإيراني سيتوسع؛ ولن تتمكن الولايات المتحدة من تقليص هذا النفوذ، حتى لو أرادت ذلك، على الرغم من أن أحد أبرز سيناريوهات (راند) يشير إلى أن هذه الإرادة غير موجودة، لدى دوائر القرار الأميركي.

هل سيقبل السوريون الذين ضحوا بدمائهم وأسرهم وممتلكاتهم، طوال هذه السنوات، بمثل هذه النتيجة؟.




المصدر