مكمن الشلل في الوضع السوري
25 يونيو، 2017
راتب شعبو
من أهم ملامح الصراع المحتدم في سورية، منذ ست سنوات وبضعة أشهر، أنه صراع ثابت من الناحية السياسية، بعد أن أصيبت حركة الاستقطاب السياسي بين معسكريه بالشلل؛ الأمر الذي جعل حركة الصراع مقتصرة على جانبه العسكري، ما عنى أن الانتصار العسكري لو تحقق لأي طرف، فإنه كان سينطوي سلفًا على قسر عام واستبداد سياسي، ذلك أنه سوف يفرض نفسه على جمهور واسع غير راضٍ أو حتى معاد له. حدث هذا بتقديرنا منذ أن ترسخ النهج الإسلامي العسكري داخل هذا الصراع المحتدم ضد نظام الأسد، إلى أن صار حضور القاعدة طاغيًا فيه. منذئذ انشلّت الحركة بين جمهورَي الطرفين، بسبب تشابه طرفيه في العداء لما خرج السوريون من أجله في مطلع 2011. على هذا، صارت المقارنات الكمية هي وسيلة السجال الأبرز بين أنصار الطرفين؛ ما يشير إلى إقرار ضمني من الجميع بتشابه طرفيه الفاعلين، التشابه الذي راح يسحب نفسه ليسيطر أيضًا على مستوى السجال السياسي واللغة.
من هذه الناحية يفترق الصراع الدائر في سورية عن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث إن هذا الأخير شديد الوضوح قياسًا إلى الأول. لا وجهَ ممكنًا لإنكار الحق الفلسطيني، هناك أرض مغتصبة وشعب مهجر وقرارات أممية مهملة.. إلخ. تعقيد الموضوع الفلسطيني نابع من خارجه، فيما تبدو لوحة الصراع الداخلية (الإسرائيلية-الفلسطينية) واضحة وبسيطة بما يكفي. غير أن الانحياز الخارجي المطلق لـ “إسرائيل” هو السبب في قهر الفلسطينيين عن استرداد حقهم وتعقد صراعاتهم. وهذا ينطبق على بقية الحقوق العربية التي تغتصبها “إسرائيل” إلى اليوم. أما الحق السوري فإنه يضيع في معمعة صراع المتشابهين؛ وعليه فإن تعقيد الصراع السوري ينبع من داخله (تشابه أطرافه حيال الموضوع الأساس للصراع: الديمقراطية) أكثر مما ينبع من الخارج (اصطفافات الدول حيال هذا الصراع).
حتى أكثر المدافعين حماسةً عن نظام الأسد لا ينكر فساده وظلمه وعائليته.. إلخ، غير أن الحجة الثابتة لديهم هي أن الإسلاميين يُشكّلون بديلًا أسوأ؛ يلتقي على هذا المنطق كل الطيف المناصر للنظام، بكل تدرجاته (وتلتقي عليه أيضًا ليس فقط الدول الغربية المناهضة لنظام الأسد، بل غالبية اليسار العالمي). لا يملك أعداء هذا المنطق ضده سوى القول إن النظام هو من مهّد الطريقَ للإسلاميين، عبر قمع العلمانيين ومحاباة الإسلاميين وإخراجهم من السجون في مستهل الثورة.. إلخ، وإن الخلاص من النظام أمرٌ أساسي، لأنه سوف يتيح لنا مواجهة الإسلاميين فيما بعد. غير أن منطق هؤلاء ليس أكثر قوة من منطق أنصار النظام الذين يقولون أيضًا: لنتخلص من هذا الطوفان الإسلامي الفاشي أولًا ثم نتفرغ لمواجهة النظام وإصلاحه.
يبقى لدى معارضي النظام نقطة تفوق أخلاقية تتعلق بمستوى الإجرام الذي ارتكبه ويرتكبه النظام بحق معارضيه ووسطهم الاجتماعي كاملًا باتباع سياسة الأرض المحروقة، غير أن الانحياز السياسي الناجم عن الرفض القوي للإسلاميين يُبطل فاعلية هذا التفوق الأخلاقي ويمنع تحوله إلى رفض سياسي، وللتخفيف من حدة تأثير هذا العامل يستند مناصرو النظام على أفعال إجرامية مشابهة من جانب فصائل إسلامية تقاتل النظام. السجال هنا يتخذ بعدًا أخلاقيًا وإنسانيًا دون أفضليات سياسية، وهذا من شأنه أن يساهم في تغذية حدة العداء بين المعسكرين، ويخلق طاقة تفتيت اجتماعي بدلًا من أن يخلق طاقة تغيير سياسي.
الكلام عن الحرية والكرامة وتداول السلطة وعدالة التوزيع والتنمية وحقوق الإنسان.. إلخ، غارت إلى خلفية المشهد، واختار أنصار هذه القيم (الديمقراطيون العلمانيون) أن يهجروها لكي يُستقطَبوا في المعركة السياسية الأكثر سخونة التي يعرضها الواقع السوري، صراع النظام مع الإسلاميين بتشعباته.
ترى لو بقي التيار الديمقراطي العلماني أمينًا لذاته، ودافع على طول الخط عن قيمه التي خرج من أجلها السوريون دون أن يستسلم إلى الانحياز لصالح أي جهة عسكرية أو سياسية تحتقر هذه القيم، ما الذي كان يمكن أن يجنيه؟ الراجح أنه ما كان سيتغير شيء مهم في سياق الصراع، بعد أن غدا صراعًا عسكريًا لا يمتلك وسائله سوى النظام والإسلاميين. لكن المؤكد أن هذا التيار كان سيرسم مكانة لها احترامها في المجال السياسي السوري والعالمي، وكان سيجني رصيدًا سياسيًا وأخلاقيًا يمكن استثماره لاحقًا، وربما في غضون هذه الأحداث نفسها.
في كل حال، لم يكن راجحًا، في ظل عالم اليوم أن يتوضّع في سورية النظام الديمقراطي المأمول، فهذا أمر تنقصه دعائم داخلية وخارجية، لكن كان يؤمل أن تنجو سورية إلى حد كبير من الكارثة التي حلت بها.
الخطوة الأهم التي أنجزها النظام السوري في مواجهة التغيير السياسي، بالتعاون، غير المباشر، مع الإسلاميين وغير قليل من مزكّيهم العلمانيين، هي هذا الموت السياسي الذي شل حركة الاستقطاب، وحوّل الصراعَ بالتالي إلى صراع عسكري محض. الانفصال كان واضحًا منذ مرحلة مبكرة بين التمثيل السياسي للحراك السوري، وبين الجانب العسكري منه، ونظرًا لموت الجانب السياسي في الصراع، كان وزن الممثلين السياسيين ميتًا أيضًا، وكانوا يدركون أنهم يكتسبون قيمتهم من داعميهم الخارجيين بالدرجة الأولى، هذا ما يفسر مثلًا شعور هؤلاء السياسيين ممن شغلوا مناصب قيادية، بالامتنان الكبير لوزير خارجية السعودية حينها، لأن هذا الأخير نهض وحياهم وأجلسهم بجواره. فيما بعد جرى، في أستانا، بترتيب من القوى الأكثر انخراطًا في الميدان السوري (إيران وروسيا وتركيا)، القفز من فوق هذه القشرة السياسية والتفاوض المباشر مع العسكريين.
ومع هذا الموت السياسي للحراك توقفت، بشكل شبه تام، حركةُ الانشقاقات السياسية من الجيش ليحل محلها تاليًا عدم الالتحاق بالجيش، وهذا لم يعد يمثل موقفًا سياسيًا في الواقع، بل هروبًا من قتال عبثي وموت مجاني، وهو ظاهرة شائعة في الأوساط المؤيدة للنظام كما في غيرها، أي إنها ظاهرة مستقلة عن الانحيازات السياسية، ولعلها التعبير الاجتماعي الأبرز عن الوعي العام بما وصل إليه الصراع من ابتعاد عن أصله عن المُنشئ.
[sociallocker] [/sociallocker]