دور الاقتصاد في فشل بناء (الدولة) السوريّة


محمد محمد

المحتويات

– مرحلة الانتداب الفرنسي (1920 – 1946) عرقلة تحديث الاقتصاد

– دولة الاستقلال، الجمهورية السورية (1946 – 1958) النجاح الاقتصادي والفشل التنموي

– سياسات اقتصادية – اجتماعية في ظل الاستبداد السياسي (1958 – 1970)

– هدر الموارد والتنمية ونظام شمولي (1970 – 2000)

– ليبرالية اقتصادية بلا ديمقراطية سياسة – قد التحضير للانفجار (2000 – 2010)

(الفشل التنموي) هو العنوان العريض للدور السلبي الذي أداه الاقتصاد في إحباط تجربة بناء (الدولة السورية). لم تعرف سورية في تاريخها الحديث، عملية (تنمية حقيقية (تعيد توزيع الدخل وتقلص الفوارق الاجتماعية) شاملة (اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية) ومستدامة (تحفظ حق الأجيال القادمة بالموارد). وتختلف الأسباب من مرحلة إلى أخرى. فمن نجاح اقتصادي لم يتحول إلى تنمية في مرحلة، إلى فشل اقتصادي يُنتج بالضرورة عجزًا عن تحقيق أي تنمية في مراحل أخرى.

مرحلة الانتداب الفرنسي (1920 – 1946) عرقلة تحديث الاقتصاد

كان الاقتصاد السوري حين أُخضعت سورية للانتداب الفرنسي، اقتصادًا زراعيًا تقليديًا، تسيطر فيه علاقات الإنتاج الإقطاعية المستندة أساسًا إلى الملكيات الكبيرة الشاسعة. يشتغل في الزراعة ويعيش منها نحو ثلثي السكان. تُشغّل الصناعة والتجارة نحو 10 – 15 في المئة من السكان، وما يسمى الإنتاج الصناعي آنذاك هو إنتاج منزلي وحرفي بسيط يقوم على منشآت صغيرة، وأدوات عمل بدائية، وتقسيم عمل تقليدي، وإنتاجية ضعيفة، وتكاليف عالية، وضرائب باهظة. الميزان التجاري خاسر نتيجة تنامي المستوردات المعدنية والسلع الصناعية والمنتجات الغذائية، وضعف الصادرات من المواد الأولية الزراعية بشقيها النباتي والحيواني، وبعض المنتجات الصناعية.

لم تعمل سلطة الانتداب -في ربع قرن- على إجراء تحول في العلاقات الاقتصادية الاجتماعية الريفية، بتحسين القوى المنتجة في الريف وتصفية العلاقات الإقطاعية الموروثة، واستبدال علاقات رأسمالية بها. إذ اتخذ تمويل الزراعة طابع التسليف الربوي، وليس طريق الاستثمار الإنتاجي في الزراعة لتحديثها ورسملتها، ولم تُقدّم التسهيلات لإقامة المعامل والمنشآت الصناعية، فقد رفضت سلطة الانتداب فكرة إقامة مصرف صناعي برأس مال 500 ألف ليرة سورية عام 1929 (الدولار = 1.3 ليرة سورية حينذاك). واستهدف تمويل التجارة الخارجية إبقاء سورية مستودعًا للمنتجات الأولية لفرنسا والبلدان الغربية، وسوقًا لتصريف المصنوعات الفرنسية والأجنبية. لم تهدف سياسة الانتداب الفرنسي إلى بناء (دولة) سوريّة قائمة على بنية اقتصادية حديثة وعصرية.

دولة الاستقلال، الجمهورية السورية (1946 – 1958)

النجاح الاقتصادي والفشل التنموي

نما الاقتصاد نموًا سريعًا وكبيرًا وحقيقيًا لغياب التضخم، تجاوز متوسط معدل نمو الدخل الوطني سنويًا (7 في المئة)، وقُدّر وسطي نصيب الفرد من الدخل الوطني بنحو 425 ليرة سورية سنويًا، أي 113 دولار (الدولار = 3.575 ل. س حينذاك). كانت سورية في طليعة بلدان الشرق الأوسط في مؤشر متوسط دخل الفرد، لكنه مؤشر حسابي يُخفي الفروقات في الدخل الفعلي بين الطبقات والشرائح الاجتماعية. لم يتحول النمو الاقتصادي الكبير إلى (تنمية) حقيقية تعيد توزيع الدخل، وتقليص الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتقضي على البطالة.

اتبعت الحكومات السورية المتعاقبة سياسات اقتصادية متناقضة، نتيجة تضارب مصالح فئات التحالف الطبقي الحاكم. قضت مصالح الإقطاعيين وكبار الملاك الزراعيين باتباع سياسات غير (رأسمالية) في القطاع الزراعي، قطعت الطريق على حل المسألة الزراعية حلًا برجوازيًا، يُدخل علاقات الإنتاج الرأسمالية في القطاع الزراعي ويحدّثه بطريقة عصرية. وقفت البرجوازية بحزم إلى جانب الإقطاع في الدفاع عن علاقات الإنتاج الإقطاعية وشبه الإقطاعية، فهي لم تكن قد قطعت حبل السرة معه. ورفض البرلمان مرارًا القيام بإصلاح زراعي يقلص التفاوت الكبير بين الملكيات الزراعية، ويوسع القاعدة الاجتماعية للتملك، علاوة على قبول قانون علاقات زراعية جديد يخفف الظلم عن الفلاحين. فظلت المسألة الفلاحية عامل تأزم اجتماعي تسهم بظاهرة غياب الاستقرار السياسي.

وفرضت البرجوازية الصناعية سياسات رأسمالية غير ليبرالية، تمثّلت بحماية الصناعة ودعمها وتشجيعها، لكن تلك السياسات طُبّقت تطبيقًا مُعمّمًا من دون الاهتمام بأي شرط متعلق بمعايير المواصفات والجودة، الأمر الذي أدى إلى إهمال الصناعيين ضرورة رفع القدرة التنافسية لمنتجاتهم، ومكنهم أيضًا من فرض أسعار احتكارية غير مرتبطة بتكاليف الإنتاج الحقيقية، ولم يجعلهم بحاجة إلى الاهتمام بزيادة الإنتاجية. واستمر الصناعيون بإدارة شركاتهم إدارة عائلية بعيدًا عن متطلبات الإدارة الحديثة، ذلك كله أدى إلى فشل مشروع التصنيع السوري.

واتفقت مصلحة الجميع مع مصلحة البرجوازية التجارية باتباع سياسة ليبرالية قضت بـ(حرية) السوق الداخلية، بما في ذلك سوق العمل، أدت إلى تدني الأجور، وارتفاع الأسعار قياسًا بمستويات الدخل. وكانت النتيجة انخفاض مستويات المعيشة لأغلب السكان. وظل متوسط دخل الفرد المرتفع رقمًا حسابيًا على الورق، يُغطّي سوء التوزيع.

وجاءت السياسات الضريبية محابية للأغنياء. وغابت مكافحة ظاهرة التهرب الضريبي. ما انعكس سلبًا في إيرادات الموازنة العامة، وبذلك انكمشت السياسة الإنفاقية بشقيها الجاري (تعليم، ثقافة، صحة، أجور، تأمين، ضمانات) والاستثماري (بنية تحتية، مجالات استثمارية وإنتاجية ضرورية للمجتمع ولا يقدم عليها الاستثمار الخاص).

ذلك كله أعاق تحويل النمو الاقتصادي الكبير إلى (تنمية). هذا الفشل التنموي البرجوازي ولّد نقمة شعبية واسعة وطموحًا للتغيير الاقتصادي والاجتماعي نحو العدالة الاجتماعية، وأسهم في خلق حالة غياب استقرار سياسي. ما عزز عدم تجذر الوعي الديمقراطي والثقافة الديمقراطية في الوجدان الشعبي، وتحولهما إلى نمط حياة. فلم يدافع الجمهور العريض عن الحكم الديمقراطي في وجه الانقلابات العسكرية (ثلاثة عام 1949)، بل وقف متفرجًا إما بشماتة بالحكومة والبرلمان أو مُرحّبًا بوعود الانقلابين الخُلبيّة بتحسين حياة الناس. وكانت تلك النقمة أحد دوافع التأييد الشعبي الطوعي الواسع للوحدة مع مصر عام 1958، مضحيًا بالديمقراطية براحة ضمير.

وشهادة العدل والحقيقة لإنصاف تلك المرحلة تقول: إن حيوية المجتمع السوري، آنذاك، الممتلك لمهاراته التاريخية، والمتمتع بحرياته، إضافة إلى طريقة تدخل الدولة في الاقتصاد بالأدوات والأساليب الاقتصادية كانت تشير إلى أن أفق التقدّم والازدهار كان مفتوحًا على أمل واعد.

سياسات اقتصادية – اجتماعية في ظل الاستبداد السياسي (1958 – 1970)

بدأت سياسات التأميم والإصلاح الزراعي في عهد الوحدة، ثم جذّرت سلطة البعث الأولى في عامي (1964 – 1965) الإصلاح الزراعي، ووسعت التأميم. أُممت الصناعات التحويلية معظمها، والصناعة الاستخراجية كلها، والتجارة الخارجية معظمها، وتدخلت الدولة في التجارة الداخلية. وأممت المصارف وشركات التأمين، وأمم التعليم بمراحله كافة. واتبعت سياسة التشغيل الاجتماعي. حدث توسع في التعليم، وتحسنت الخدمات الصحية والمواصلات. أدت تلك السياسات إلى تقليص الهوة بين الطبقات. وتحسنت مستويات معيشة القاعدة الاجتماعية العريضة، وتراجع الفقر، وتقلصت البطالة الظاهرة، وظهرت (البطالة المُقنّعة) بسبب سياسة التشغيل الاجتماعي، لكن ذلك لم يدم لمدة طويلة، ووصلت السياسات الاقتصادية الهادفة إلى العدالة الاجتماعية إلى أفق مسدود. وكانت النتيجة فشلًا اقتصاديًا، فلم يحدث نمو اقتصادي مستدام، وانخفضت الإنتاجية، فانعدمت الإمكانية التنموية، وبغياب تلازم (النمو) و(التنمية)تصبح العدالة تعميم الفقر.

يعود ذلك الفشل إلى تطبيق تلك السياسات من سلطة استبدادية صادرت الحريات، لا حرية أحزاب، ولا حرية نقابات، ولا حرية صحافة، ولا حرية تظاهر، ولا حرية إضراب، ما يؤدي إلى غياب الشفافية والمساءلة والمحاسبة، وغياب المساواة وتكافؤ الفرص بمعايير الكفاية والخبرة. وزاد الأوضاع سوءًا هيمنة السلطة على النقابات، وبالأخص النقابات العمالية. ذلك كله سمح باستمرار الإدارة البيرقراطية المركزية للاقتصاد وتغّولها، وتواصل عملها بطريقة أوامرية إدارية فوقية، واستمرار ضعف كفاية إدارات قطاع الدولة) الاقتصادي وانعدام خبراته.

هكذا انقلبت الآية في سورية ما بين خمسينيات القرن الماضي وستينياته، لكن النتيجة واحدة: لم تتحقق العدالة الاجتماعية. ففي الخمسينيات أدى غياب الاكتراث بالتنمية والعدالة إلى الإسهام في التضحية بالديمقراطية. وفي الستينيات أدى غياب الديمقراطية إلى التضحية بالعدالة والتنمية.

هدر الموارد والتنمية ونظام شمولي (1970 – 2000)

في السبعينيات، ظهرت ملامح تحولات في النظام الاقتصادي- الاجتماعي. نما توجه لمنح دور أوسع للقطاع الخاص، وأُطلق شعار التعددية الاقتصادية، وفُتح القطاع النفطي أمام الشركات الأجنبية للاستثمار عام 1973، واندفع القطاع الخاص نشيطًا. وظهر استعداد للعودة نحو اقتصاد السوق الرأسمالي. نما الاقتصاد نموًا متأرجحًا تأرجحًا حادًا بسبب مصادره غير الإنتاجية وغير المستدامة، من مثل المنح والمساعدات، ومن زيادة الإنتاج النفطي وارتفاع أسعاره. ومن عوائد عبور النفط العراقي، ما ولّد السمة الريعية للاقتصاد بصورة متضخمة.

ظهر تحالف طبقي جديد تألف مما عُرف بـ(البرجوازية البيروقراطية)” و(البرجوازية الطفيلية). هذه الطبقة الوليدة لا تمتلك تقاليد استثمارية. حصلت على ثرواتها بطرائق غير مشروعة. هربتها إلى الخارج أو شغلتها في نشاط اقتصادي غير منتج وفي معظم الأحيان غير قانونية. انخفضت قيمة الليرة. وأدى الفساد إلى نمو ظاهرة المليونيرية، إذ ارتفع عددهم في المرحلة الواقعة بين (1971 – 1975) من (55 مليونيرًا) في العام 1963 إلى (2500 مليونير) في العام 1976.

هُدرت الموارد، ولم تُوجّه الاستثمارات نحو مجالات الإنتاج السلعي، فقُطع الطريق أمام أي تنمية. بات الفساد ظاهرة عضوية معممة وإفساد ممنهج. وانقلب سلم القيم الأخلاقية في المجتمع. دخل الاقتصاد في مرحلة انحدار، وتحضّر لأزمة بنيوية نتيجة سمته الريعية.

في الثمانينيات، انحسرت المساعدات العربية، وانخفضت عائدات النفط لانخفاض الأسعار. تنامت البيروقراطية الحكومية، واستشرى الفساد، أدت الإدارة الحكومية إلى قطاع عام خاسر. هبطت معدلات النمو. انخفضت قيمة الليرة الشرائية والتبادلية، وظهرت الاختلالات الاقتصادية. تراجعت حصة الفرد ومستوى معيشته، واشتدت الهجرة من الأرياف إلى المدن مُتسببة بتراجع عدد العاملين في الزراعة، تغيرت التركيبة الاجتماعية الاقتصادية متمثلة بالهامشية المدينية وتضخم العشوائيات. وتضخم القطاع غير المنظم. ازدادت معدلات البطالة، وازداد الفقر المطلق والنسبي.

حصل انفراج نسبي ومحدود في التسعينيات بسبب اكتشاف النفط الخفيف وتحسن أسعاره. وجرت محاولة محدودة ومترددة للانفتاح الاقتصادي، تمثلت بقانون الاستثمار رقم (10) لعام 1991. امتلكت الحكومة مرونة أكبر في حل بعض مشكلاتها. وفُتح باب المساعدات والاقتراض من الدول العربية الخليجية والأوروبية. ما جعلها أكثر استعدادًا للانفتاح على الخارج، والسير باتجاه الاندماج الإقليمي والدولي في ظل سياسات ليبرالية اقتصادية جديدة. وفي النتيجة لم يتمكن النظام السياسي الشمولي، خلال عقوده الثلاثة، تحقيق أي من النمو الاقتصادي المستقر والمستدام أو التنمية أو العدالة.

ليبرالية اقتصادية بلا ديمقراطية سياسة

عقد التحضير للانفجار (2000 – 2010)

بعد محاولة الانفتاح ببطء وتردد خلال العقود الثلاثة السابقة، بدأت عملية الانتقال من بقايا نظام اقتصادي مغلق ومخطط مركزيًا بإدارة بيروقراطية، إلى نظام اقتصاد السوق وسياساته النيوليبرالية. وجاء تطبيق تلك السياسات تطبيقًا انتقائيًا ومُشوّهًا تلبية لمصالح مافيات النظام الاقتصادية. لذلك حصد الاقتصاد سلبيات السياسات الجديدة من دون أي إيجابية من إيجابياتها. مثالًا، في سلسلة القوانين التي صدرت للتشريع لتلك السياسات صدر قانون (المنافسة ومكافحة الاحتكار)، وأُحدثت (هيئة المنافسة ومكافحة الاحتكار)، لكن القانون لم يُطبّق والهيئة لم تعمل. وبقي قطاع الاتصالات الخلوية كما كان احتكاريًا. واستخدم النظام التضليل لامتصاص استياء قاعدته الاجتماعية المتضررة من الانفتاح. فادعى أنه سيطبق سياسة (اقتصاد السوق الاجتماعي)، لكنه لم يقم بأي إجراء لوضعه موضع التنفيذ.

كان الاقتصاد السوري إنتاجيًا فأصبح خدميًا، وتآكلت القوة الشرائية للأجور والرواتب. تزايد الفقر والبطالة. تراجعت سورية إلى مراكز متأخرة جدًا في مؤشر الفساد عام 2008، واحتلت المرتبة 147 بين 180 دولة. قُدّرت الأموال التي سُرقت نتيجة الفساد وهرّبت إلى الخارج بأكثر من 150 مليار دولار. قُدّر حجم التهرب الضريبي بحوالى 4 مليارات دولار. هذه هي نتيجة السياسات النيوليبرالية الانتقائية بلا ديمقراطية سياسية: لا نمو اقتصادي، لا تنمية، لا عدالة اجتماعية.

هذه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المأسوية لم تُشعل ثورة، لكنها كوّنت برميل البارود الذي فجّرته ثورة الحرية والكرامة.




المصدر