المسرحيّ والدراما التلفزيونية: معارك تشغيل الانحطاط


حاتم محمودي

ليس ثمّة شكّ بعد الآن في أنّ الدراما التلفزيونية تحوّلت إلى محاكاة ساخرة للخبرة الجماليّة، إذ هي تجعل من كلّ جليل مُرتبطًا بالفكاهة كما لو أنّ مهمّتها الوحيدة لا تتعدّى حدود تَتْفيهه وتسخيفه. إنّ راهنها الآن لا يكترث بنبالة الفنّ أو أصالته، بقدر ما هو مرتبط تمام الارتباط بصناعته: أي أن يجعل منه صيغة فجّة ومبتذلة حتّى يتسنّى له فيما بعد تصديره إلى نسبة أكبر من الجماهير، وهذا سلوك تجاريّ محض، يعمل على خلق ثقافة سلبيّة تدّعي في المقابل أنّها تقوّض اغتراب تلك الجماهير، بيد أنّها لا تساهم إلا في انحطاطهم وتخصيب الذّوق المبتذل وتأبيد انحرافهم عن قضاياهم الحقيقيّة.

في المقابل، نشأ انحطاط مسرحيّ وجد اشتغاله في مغالاة البعض من المسرحيين ووقوفهم ضدّ هذا السائد من الدراما التلفزيونية، لكن يا لوطأة الدهشة: إن رفضهم ذلك لم يفصح عن قراءة نقديّة أصيلة أو هو متعلّق بمدى غيرتهم على الفنّ بوصفهم حاملي بدائل أو مشاريع، وعلى الأغلب فهو رفض عدميّ لمجرّد الرّفض، إذ تحوّل هؤلاء إلى ما يشبه الطوائف والملل، فثمّة من حرّكته نزعة غضبيّة بعد أن تمّ تجاهله من قبل تلك الأعمال التلفزيونية، وثمّة من حرّكته الانتهازية بعد تغييبه عن الشاشات فلم يظفر ببعض الأموال، وثمّة أيضًا من حرّكته الغيرة لأنّه حُرِمَ من النجوميّة عكس زميل له، وثمّة في المقابل مِنْ هؤلاء المسرحيين من يرفض رفضًا قاطعًا الظهور على شاشة التلفزة، ولأنّ راهن المسرح أقرب منه إلى العطالة الفنيّة هذه الأيّام، وجد في الغوغاء ما يجعله يسدّ فراغه.

ما يغذّي هذا الانحطاط، هو تسليط الضوء على راهن المسرح، ودعنا نفكّك هذه المعارك، مع هؤلاء الغاضبين، ونحن نشاهد أعمالهم المسرحيّة، إذ هي الأخرى لا تختلف عن قرينتها التلفزيونية في شيء، بعد أن طغت عليها “واقعيّة جدانوف المبتذلة” باسم المسرح السياسيّ، وتعدّدت بتعدّد المتطفّلين من مخرجين وممثّلين وكتّاب ومنتجين؛ فتحوّلت بدورها إلى ما يشبه الملابس المستعملة في الأسواق الشعبيّة، وفي المقابل هي تفتقر دائمًا إلى دعم ماليّ وهو ما كرّس هشاشة الوضعيّة الاجتماعية للعديد من الفنّانين؛ ما جعل سلوكهم لا يختلف في شيء عن سلوك “البروليتاريا الرثّة” بعبارة الشيوعيين.

لن يخجلنا، بعد الآن، الاعترافُ العميق بكون هؤلاء جميعًا، من الذين قذفتهم في وجوهنا تلك الشاشات التلفزيونية أو غيرهم من الغاضبين، أبعد ما يكون من الجمهور، لأنّه أكثر حداثة منهم، فهو الآن يقيم بجسده وعقله ومقدّساته وحاجته إلى الفنّ ضمن الثورة الرقميّة والتكنولوجيّة، ويستطيع أن يحدّد خياراته الفنّية وفق ما يريد، ويتابع معظم الأعمال الفنيّة في العالم دون الحاجة إلى وساطة جماليّة تفرضها عليه سلطة ما. أمّا أولئك فمعاركهم لا تعنيه البتّة، لقد تحوّلوا من فنّانين إلى مجرّد جيش من العاطلين عن العمل، يبحثون عن وظيفة أو مهنة باسم الفنّ لا غير، أو دعنا نتجرّأ لنقلها بصراحة: إنّهم أشبه بأصحاب الحالات الاجتماعية المزريّة التي تبحث لها عن اغاثة عاجلة، وقد كان الأجدر بهم أن يثوّروا نقاباتهم كي تجدّد هياكلها أو هي سقطت في الانتهازية والبيروقراطية، علّها بذلك توفّر لهم ضمانات معيشيّة أفضل، عوض أن يكرّسوا ذلك السلوك وكأنّهم يحملون جنازة الفنّ إلى مقبرة الابتذال وهم يلحّنون تأبينًا ميتافيزيقيًا له.

تكاد هذه المعارك تنطبق على مجمل الفنّانين في البلدان العربيّة، مع العلم أنّه لم يسلم من معادلتها غير قلّة قليلة، ولكن ما معنى أن نحاور أحد هؤلاء فيجيبنا معترفًا بأفول الفنّ ونهايته؛ ولكنّه في المقابل يصرّ على ربط صلته به؟ أليس من المفارقات أن نلبس عباءة نحن نقول بعدم وجودها؟ كيف نفسّر هذا السلوك “الانفصاميّ” الذي يبعث فينا الضحك والسخرية؟ ألم يتفطن صاحبه إلى أنّنا بهذا الشكل سنتساءل بالقول: أثمّة فعلًا فنّان أم تاجرٌ مخاتل انتحل تلك الصفة؟

ثمّة -فعلًا- رهط من أصحاب هذا السلوك المنتسبين إلى ثقافتنا، يحملون على ظهورهم جبالًا من الإثم والخطايا، أو لنقل من باب تبرئتهم: لقد دفعهم انتحالهم –وهم مجبولون على ذلك بوعي مرضيّ- صفةَ المثقّف إلى أن يكونوا خردة “كربلائيّة” محض، فلم نعد نراهم إلا منتحبين إزاء وضعياتهم الاجتماعيّة لا إزاء الفنّ. إنّ فشلهم الذريع في نحت تكوّن الإنسان المستقبليّ الذي قد يفضي بنا فيما بعد إلى سلوك “ما بعد فنّي” –باعتبار أفول الفن- جعل منهم “إرهابيين جدًّا”، إذ لم يكرّسوا غير ثقافة الصراع والتصادم، أمّا انتسابهم إلى زمرة المثقّفين فهو مغالطة كبرى، وإلا كيف نفسّر سلوكهم الأمنيّ، بعد أن تحوّلوا إلى عسس يتربّص بعضهم بأخطاء البعض الآخر، أو شهوتهم التي لا تلجمها رداءة أعمالهم إلى تدمير خصوصيّتهم الإنسانيّة؟ لنقلْ، من باب الموضوعيّة، إنّ ثمّة فئة قليلة منهم نجت من هذه الفخاخ، ويا لوطأة هذا العزاء، فهذه القلّة لا تجد لها ملعبًا غير أنّها تنتسب إلى فئة التجّار، نراها هي الأخرى في الأسواق وقرى العالم المُعلنِ بيعها من قبل من تذيّلوا لهم، أو من قبل من أعطاهم أحقّية صفة المثقّفين، مقابل لعب دور القتلة المأجورين، فصرنا نراهم يحتكرون المشهد المسرحيّ والتلفزيّ برمّته.

سندلي الآن بباقة من الأمل، خارج معادلة هؤلاء جميعًا، إلى أصحاب العقول الحرّة من الفنّانين الذين قرّروا الإقامة بعيدًا عن المستنقعات ومعارك كسر الأشداق، ذلك أن ندلي بشذرة للفيلسوف “كانط” وهو يقول: “قلّة هم الذين أفلحوا في التخلّص، بالعمل الخاص لعقولهم، من حالة الوصاية والمشي على الرغم من كلّ شيء بخطى ثابتة. لكن أن يتنوّر جمهور ما بنفسه فهو أمر أقرب إلى الاحتمال، بل إن ذلك حتميّ شريطة أن نمنحه الحرّية”، فكفى أولئك المنتحلين لعب دور المعلّم والتكلّم باسم الفنّ؛ فلهذا الجمهور حكمته الجمالية، حين تحرّكه الثورات والرغبة في الخلاص من كلّ جهة سلطويّة.




المصدر