تفتيت الدولة لاحتواء الثورة

30 يونيو، 2017

رشيد الحاج صالح

يُعدّ تبخّر الكيان المستقل للدولة السورية اليوم، أول النتائج الواضحة للثورة السورية، فالمعادلة التي يلعب وفقها النظام الأسدي أصبحت جليّة، وهي: التضحية بالدولة السورية لمواجهة الثورة وتعقيداتها. يجد المتابع للوضع السوري اليوم أن النظام الأسدي مستعد لتفتيت هذه الدولة وتحويلها إلى مناطق نفوذ وقواعد عسكرية، يتوازعها مع القوى الفاعلة في المنطقة، أكثر من أي وقت مضى، ولا سيما أن الثمن الذي يعزي به نفسه هو البقاء لأطول فترة في السلطة. فالنظام الأسدي لم يكن يحكم من خلال الدولة يومًا، ولم يبق على مستلزماتها الحديثة من دستور ومؤسسات وقوانين إلا في حدود “الوجود الشكلي” الذي يستفاد منه أن سورية موجودة بوصفها دولة مستقلة أمام العالم الخارجي والأمم المتحدة.

تاريخ النظام الأسدي مع الدولة السورية تاريخ أسود، وإبقاؤه على وجودها الشكلاني أمرٌ اضطر له، لأن زمن العصابات بالمعنى التقليدي انتهى، فيما زمن الدولة/ العائلة، أو الدولة القبيلة يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولأن التاريخ الاجتماعي والسياسي لسورية تجاوز تلك الأشكال، وخطى خطوات لا بأس بها من شكل الدولة الريعية (مهمتها الأساسية جمع الأموال من الناس للسلطة الحاكمة أيًا كانت) إلى الدولة الدستورية، منذ عشرينات القرن العشرين، ودخول الاستعمار الفرنسي إلى سورية.

الشكل الحالي للدولة السورية يعود إلى 1920 حين فشلت محاولة الملك فيصل في إقامة دولة سورية الكبرى التي كان يُراد لها أن تضم سورية ولبنان والعراق، وخضع في النهاية لاتفاقية (سايكس-بيكو) المعروفة. خلال فترة الانتداب الفرنسي على سورية خاض السوريون عدة ثورات رافضة لتقسيم سورية الكبرى، وفي النهاية، وبعد الحرب العالمية الثانية اضطرت فرنسا للجلاء عن سورية في عام 1946 بعد أن تركت دولة هي أقرب لدولة المؤسسات والقانون، وبدأت محاولات العسكر للاستيلاء على الحكم والسيطرة على الدولة السورية الوليد، في آذار/ مارس 1949، حين قام حسني الزعيم بأول انقلاب عسكري في سورية، ولم تنته تلك المحاولات إلا بانقلاب في تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 قاده حافظ الأسد، ضد القوى التي حملته مسؤولية هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ورفضه تقديم المساندة الجوية للقوات السورية التي أرسلها صلاح جديد ونور الدين الأتاسي لمساندة الفلسطينيين في الأردن، أو ما بات يُعرف بـ “أيلول الأسود”، الأمر الذي أفشل مهمة تلك القوات.

كان حافظ الأسد يعتقد أنه استولى على الحكم على الضد من الدولة ومؤسساتها، وعلى الضد من حزب البعث الذي فَصَل بدوره حافظ الأسد من منصب وزير الدفاع قبل أيام من انقلابه عام 1970. ولذلك نجد أن تاريخ حافظ الأسد السياسي كان يقوم على تهميش مكونين أساسيين من مكونات سورية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وأقصد بهما الدولة ومؤسساتها من جهة، وحزب البعث من جهة ثانية، وكانت طريقته المفضلة هي التهميش حتى التمييع، وتحويل وجودهما إلى وجود أقرب للهزل منه للجَدْ.

هكذا أطلق حافظ الأسد العنان لأجهزته الاستخباراتية (أشرف شخصيًا على تأسيس المخابرات الجوية) المنفلتة من عقال القانون لتستبيح الدولة السورية، حتى يتراءى للذي عاش في سورية أن خرق القانون من قبل تلك الأجهزة يُعدّ هدفًا قائمًا بحد ذاته، كوسيلة من وسائل إنهاء فكرة الدولة في ذهن السوري، فتحولت السلطة إلى دولة، ولم يعد للدولة من وجود يُذكر خارج حدود السلطة، وبذلك يكون حافظ الأسد (والابن سار على خطى الوالد المؤسس) قد نجح في توحيد الدولة بالنظام الأسدي، بحيث لا يمكن إسقاط النظام دون تفكيك الدولة، في إجراء احترازي لأي ثورة قد تحدث في المستقبل ضد النظام. (طبعًا هكذا يفعل كل الطغاة).

المظهر الآخر من مظاهر عدم احترام النظام الأسدي للدولة السورية وسيادتها تمثّل في قبوله التخلي عن أي جزء من سورية كطريقة لتحقيق مكاسب سياسية. طبعًا المكاسب السياسية بالنسبة للنظام الأسدي تعني شيئًا واحدًا فقط، هو استمراره في الحكم لأطول فترة ممكنة. أدركت القوى العالمية أهمية هذه النقطة إثر هزيمة 1967 والكلام الكثير الذي قيل حول الدور المشبوه لحافظ الأسد في تلك الهزيمة، ثم ازداد الأمر وضوحًا إثر عدم تعامل حافظ الأسد بجدية مع محاولة بيل كلينتون إرجاع الجولان للسوريين مقابل السلام، ثم في عدم إبداء أي ردة فعل جدّية إثر ضم “إسرائيل” للجولان عام 1984، ثم في التخلي عن لواء إسكندرون نهائيًا عام 1999 كثمن لتهدئة الوضع مع تركيا آنذاك، ودفع رئيس وزراءها للتراجع عن تهديده باجتياح الشمال السوري إذا لم يوقّع النظام السوري على اتفاقية ترسيم الحدود وتسليم عبد الله أوجلان الزعيم الكردي المعروف، وهذا ما كان. دون أن ننسى تخلي النظام الأسدي عن مزارع شبعا للبنان (يقول الإسرائيليون إنهم عندما احتلوها كان فيها مخفر سوري ويرفع العلم السوري وسجلاتها تابعة للحكومة السورية)، وذلك في محاولة لرفع الحرج عن “حزب الله” ومطالبته بالتخلي عن السلاح بعد أن انسحبت “إسرائيل” من جنوب لبنان عام 2000، ولم يبق للحزب من حجة للاحتفاظ بالسلاح، فكان أن قدّم له النظام السوري مزارع شبعا كهدية حتى يزاود عن طريقها على اللبنانيين.

لا نريد أن نتوسع في الشواهد التي تُبيّن سهولة التخلي عن أي مكون من مكونات الدولة السورية من قبل النظام الأسدي، سواء الأرض أو الدستور (الدساتير قبل حافظ الأسد كان ينتخب لها جمعية تأسيسية) أو القانون (أصدر حافظ الأسد ومن قبله حكومات حزب البعث مجموعة من القوانين أفرغت الحياة السياسية من مضمونها وجعلت الدولة خاتم في إصبع من يحكم). لكن النقطة المستفادة من تلك الشواهد أن هذا النظام لم يكن مهتمًا يومًا بالدولة السورية ولا بأراضيها أو سيادتها، ولذلك فهو يُفضّل اللعب بتلك الورقة إلى أقصى درجة ممكنة، والتخلي عن أي جزء من الأراضي السورية مهما كان مهمًا في إطار من المساومات والحسابات التي تجعل من استمراره في الحكم أمرًا ممكنًا.

ماذا سيخسر النظام الأسدي لو تخلّى عن مناطق من إدلب وشمال حلب لتركيا، وماذا سيخسر لو تخلّى عن الرقة والقامشلي وجزء من حلب للأكراد، الذين سمحوا للأميركيين ببناء عدة قواعد عسكرية فيها، وماذا سيخسر لو تخلّى مستقبلًا عن دير الزور، وأعطاها لقوى شيعية عراقية، وعن درعا وأعطاها لبعض الكتائب المسلحة التي يمكن من خلالها أن يُهدد الأردن ويحتويها، وماذا يضيره حتى لو تخلّى عن دمشق في النهاية، واكتفى بدويلة صغيرة في الساحل (كان بوتين بعد اندلاع الثورة السورية بسنتين يُفضّل هذا السيناريو، عندما كان النظام الأسدي في أسوأ حالاته).

لا يختلف النظام الأسدي كثيرًا عن (داعش) وأخواتها من حيث إنه لا يستطيع التعامل مع السياسة بوصفها دولة مكتملة الأركان وذات سيادة، بقدر تعامله مع الدولة بوصفها جماعة هلامية قد تبيع كل شيء، لا يضبطها لا دساتير ولا قوانين ولا مصالح وطنية عليا، ولا حتى أرض أو مبدأ، مستعدة للتحول من أي شيء إلى أي شيء. الدولة بمفهوم النظام الأسدي، و(داعش) وأخواتها، ليست أكثر من مجرد أداة لمواجهة المجتمع ومطالبه، بغية السيطرة عليه، أي بتحويل الدولة إلى لا دولة.

بعد تأسيسه لميليشيات مَدنيِّة مسلحة مهمتها قتل السوريين للسوريين، واستعانته بـ “حزب الله” وعدد من الميليشيات الطائفية لمساعدته في قتل السوريين وتهجيرهم (السفير الأميركي روبرت فورد لم يتوقع أن يُقدِم “حزب الله” على هذه الخطوة ويُضحّي برصيده الشعبي)، وبعد سماحه لوزير الخارجية الروسي بالحديث باسم الحكومة السورية أكثر من مرة، واتخاذ مواقف علنية أمام شاشات التلفاز عن النظام الأسدي، وبعد قبوله بأن يتحدث حسن نصر الله عن سورية بوصفه كيانًا يخصه أكثر حتى من النظام الأسدي نفسه، وبعد أن أعرب بشار الأسد -على شاشة التلفزيون السوري- عن مفاجئته بوجود وزير الدفاع الروسي على الأراضي السورية في طرطوس، وبعد قبوله الضمني بوجود عسكري روسي وتركي في شمال سورية، وتنسيقه مع قوات (قسد) الكردية المسيطرة بمساعدة أميركية على مناطق واسعة من شمال سورية، واتّباعه لسياسة التهجير على أساس طائفي في إدلب وريف دمشق، بعد كل ذلك لا يمكن القول إلا أن النظام الأسدي هو أول من ضحى بالدولة السورية، لأنه لم يكن يؤمن بها أصلًا، وأنها أرخص شيء يمكن أن يدفعه ثمنًا لبقائه، حتى لو تحول بشار الأسد إلى مجرد “مختار حي المهاجرين” كما تقول الطرفة السورية المعروفة.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

30 يونيو، 2017