دِماءُ، نـا- دُمىَ، نـا

30 حزيران (يونيو - جوان)، 2017

جهاد عبيد

اغسل دِماءكَ عن دُماك، فغدًا لن تكون غير أنت

الزاوية البعيدة المعتمة منك، تمامًا هي تلك. أمعن التأمّل في ليلها جيدًا، إنّ فيها دُماك.

الدُمية العمياء العتيقة الممزّقة، المحشوّة بالقشّ المرمية على نبضك، التي تنظر إليك الآن، نعم، تلك الدميمة، كل ليل تشي لروحك بما تبقّى منك. وما بقيَ فيك، تناكف آنكَ، كي تنفضَ الغبار عن ماضيك، تقلّبه، تمزّق تقويمه، تخلط أرقامه بأبجديته، تراقص الرماح في جوفك، وترميك فيك، إنها شهقتك، مذ تَقنّطر جدّك الأول عن صهوة جواده ومات، إلى يوم هُزمت. اغسل دِماءك عنها واحتضنها، لن ترحل عنك أبدًا، ولا تعلن عليها الحربَ… فعندها لن ترحمك.

تلك، جاحظة العينين السوداوين، القَزَمة، ذات الشعر الطويل كنهر، الجالسة على مِنبر قلبك، تَراها؟ كيف تنوس بساقيها القصيرتين السمينتين المعلقتين في ظُلمة أحلامك، تركل شغافك، انظر إليها، تفترش قهر سنيّ عمرك، وتلعق صبر أبيك عليك، وتقشّر عنك صبرك، ليست عدوًا وليست صديقًا لك، وليست لغيرك. إنها جهاتك الأربعة، ونجوم ليل صحرائك، وريح بحرك وشراع بحثك، إنها سمتك، اتجاهك وخَطوك، فاغسل دماك عنها واحتضنها، واحتملها، تمامًا هكذا، كي لا تَضيع أو تُضيع دربك.

اُنظر.. وأنصتْ إليها، الدمية فاغرة الفم الكبير، التي تقهقه بصمت، تلك النحيلة الفارعة صاحبة الحدبة، ذات الأصابع الطويلة المتقصفة كقصب السكّر العَطِش، سألت نفسك مرةً، لما تنهز كبدك؟! لما تضحك حتى تكاد تتفكك مفاصلها وتنفلت من مرابطها، كلما ارتجف بدنك، هلّا سألت؟! أتجازف في وحدة جسدها الهش كي تسخر منك وتضحك عليك فحسب؟! هكذا ظننت؟، تغفو فجأة لحظة صحوك، ثم تنهض من غفلتها ببطء، على مهل، كمحظية ملك مخمورة، ثم تنشط في طعن عقلك، تنكأ جراح سرّك كلما غفوت، لماذا تَبرُد أظافرها في مِحجر عينيك يا ترى؟ هلّا أجبت؟.. لا تخف، لا عليك، تلك البكماء هي ارتيابك وارتباكاتك، ومخدع رغبتك، وحبل غسيل رؤاك، ومبتغاك الصعب، إنها سؤالك وجوابك، اغسل دماءك عنها واحتضنها، ولا تقلق منها أو عليها، فهي لك.

انظر بحدسك، اتبع ضوء عقلك، ثق في خطوك نحوها حتى تصلها، أيضًا، وخطوة أخرى، نعم، لقد اقتربت، إنك تقف أمامها الآن، لا، لا تحاول، هذه الدمية لن تراها بعينك، ولو انتزعت كامل جلد وجهك ليس جفنيك فقط، اهدأ وابدأ… تشعر بحرّها أم بدفئها؟ ببردها أو صقيعها؟ هل يؤلمك صمتها؟ لعل صوتها الخارق قد أزعجك، ها قد تشتت حدسك وضاع! إذًا أعد المحاولة من جديد، لا تحدد شعورك نحوها مسبقًا، ولا توجّه رأيك فيها سلفًا، إن فعلت فشلت في التقاط أثيرها، اهدأ، رشّد شعورك بالذهول، قنّن أحاسيس الغرابة عندك، لا تتعجل الدهشة يا شقي، إلى أن تعرف أنك، أنت الذي صنعتها.

انهض.. لا وقت لديك للبكاء.

حطم قيود عقلك، إذا ظننت أنه يستحق، احفر بأسنانك كوة في جدار سجنك، واقضم حصاه، إذا آمنت أن نفسك تستحق، باعد ما بين ضلوع صدرك، كي يَفرّ قلبك، إذا شعرت أنه يستحق هذي الدمية الأثيرة، قوسك ونبلك، هي شِباك صيدك الخفيفة الرشيقة المتينة الحاضرة؛ إذا رغبت أنت، فحرر مراكب بحرك، واغسل دماءك عنها واحتضنها، إنها في خدمتك.

هي دُماك، افتحْ لها النوافذ شرّع لها الأبواب، إنها فيك ولك، جدد دمِاك، فإن تغير كل الكون من حولك، كل الكون إن تغير، لن تكون إلا أنت.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]