عالِمُ التشريح


سوزان علي

“آهٍ يا أمريكتي، يا أرضي الجديدة!”

صرخ كريستوف كولومبو ذات يومٍ، ممهدًّا للعالم من دون قصدٍ، فنًّا جديدًا سُمِّي فيما بعد (فنّ الملاحظة)، وباللهفة نفسها أطلق عالِم التشريح ماتيو كولومبو صرختَه، وهو الذي، وللصدفة، كان يحمل كنية البحار الإيطاليّ نفسها، مشيرًا إلى نتوء صغيرٍ كرأس مسمار، يجثو وسط جسد المرأة، أسماها سنة 1558، “آمور فينيريس”.

بذاك السحر والصدفة بين جغرافيا المكان وأمريكة كولومبو البّحار، التي لم يسبقه إليها أحد، وبين جغرافيا الجسد و”آمور فينيريس” لكولومبو عالِم التشريح، المنطقة التي كان وجودها، مجردَّ نتوءٍ لا معنى لازدحامه. بتلك المفارقة بدأ فريدريكو أندهازي تصوير لقطاتٍ خاصةٍ وعميقة، في عصرٍ ثقيلٍ مثل عصر النهضة، حيثُ التمرّد والاكتشافات في ظلِّ سلطةٍ كنسيٍّة على كلّ مفاصل الحياة في إيطاليا.

المخطوط العائد لعالِم التشريح الإيطالي ماتيو كولومبو الواقع في 115 صفحة، والذي أعاد فتحه مرًة أخرى أندهازي، في روايةٍ تقع في 200 صفحة، صدرت منذ فترة وجيزة عن دار التكوين في دمشق، ترجمة: د. مالك سليمان، أسرارٌ تفضح ما كان يجري في كواليس القرن السادس عشر:

“إنه عصر النهضة، عصر الاكتشافات، حيث أفُل زمن التأملّ الاستنتاجي النقيّ واحتقار القياس المنطقيّ، وبزغ فجرُ التجريب، فجرُ المعرفة المبنيّة على الأشياء المرئيّة. إنه بمعنى أدق فجرُ الملاحظة”.

ولد فريديريكو أندهازي سنة 1963، في مدينة بيونيس آيريس في الأرجنتين، فاز سنة 1996 للمرة الأولى عن قصته “النفوس الرحيمة”، وفي السنة نفسها حصل عن قصته الأخرى “النوم للتو” على الجائزة الأولى.

صدر له العديد من الراويات والقصص منها: رواية (النساء الرحيمات) 1998، وقصة (الأمير) و(سر الفلامنكو) 2000، وقصة (تجوال في الظل) 2004.

أما حكاية ماتيو كولومبو واكتشاف “آمور فينيريس”، الرواية الأولى التي حملت عنوان (عالِمُ التشريح)، فقد حصلت على الجائزة الأولى من مؤسسة (فورتابات)، وفي سنة 1997 قامت دار “إيديتوريال بلانيتا” بنشر هذه الرواية، متربعًة على عرش الكتب الأكثر مبيعًا في الأرجنتين، لتُترجم فيما بعد إلى أكثر من ثلاثين لغة.

عبر سرد تاريخيٍّ، تستريح فيه الشعريّة أحيانًا أمام تدفقِ الحدث، ويلمعُ نجم السخرية فوق كلّ منعطفٍ غارقًا متذمرًا ساخطًا، في عصرٍ يكتبُ اكتشافاتِه الأولى بحذرٍ وحيطةٍ، خشية سلطة الكنيسة ومحاكم التفتيش التي كانت تتفنّنُ في ابتكار وسائل تعذيبٍ لا تُصدق، إن حدثَ ولمحتْ تغييرًا ولو طفيفًا في خرائطها، يُحيل سلطتها إلى التقاعد.

التشريح الذي كان يجري سرًّا وبعيدًا عن أنظار العامة، يجب عليه ألاّ يذهب أبعد من الحدود التي خطّها كهنة ذلك العصر، إلا أنّ ماتيو كولومبو، لم يصغِ للقوانين المفروضة، وقادهُ ولعهُ بالجسد، ورغبته الحثيثة في فهمِ أعماقه، إلى أرضٍ جديدة، حتى إنّه اتُهِمَ بالهرطقة والشعوذة والتجديف وعبادة الشيطان، عند اكتشافهِ وصفةَ “آمور فينيريس”، الاسم الذي أطلقهُ على “البظر”.

(عالِم التشريح) روايةٌ تشرّح لنا الصراع الأزليّ بين العلم والدين، الحبّ والجنس، الرجال والنساء. يقع ماتيو كولومبو في غرام “مونا صوفيا” إحدى جميلات عصرها، التي كانت تعملُ في إحدى دور الدعارة، تتأرجح الرواية في حرارة ذاك الحبّ وتناقضاته، وفي التذمرِ والرفض والاستنكار الكنسيّ لاكتشاف “البظر”، الذي قاد عالم التشريح إلى المحاكمة ليقدم لنا في 18 جزءًا، رؤيته لمعنى أرضه الجديدة، كان عليه أن يدافعَ عن “الآمور فينيريس”، وإلاّ فالموت في انتظاره، كيف لا والمحكمة افتتحت جلستها بجملة: “إننا نشهد عودة الشيطان إلى الأرض”…؟

تناول ماتيو كولومبو، في تلك الأجزاء، ما يتعلقُ بالحبّ والخطيئة، وأخلاقيّات الرجل والمرأة، وأساليب النساء الغامضة، أما في الجزء الحادي عشر فنقرأ دفاع ماتيو عن: “وجودُ عضوٍ أنثويّ شبيهٍ بروح الرجل، أطلقتُ عليه اسم آمور فينيريس”، جرّاء التُهم الموجهة إلى اكتشافه، ولولا أن المصادفة وقعت، وأرسل البابا بولس الثالث في طلب ماتيو كولومبو، إثر مرضه، لكان الإعدام بالخازوق عقوبًة لا مفرَّ منها.

في القرن السادس عشر، وعندما صار النقاش حول النساء، نقاشًا جديًّا، يدور باستمرار في عالم الرجال، بدأ اكتشاف ماتيو كولومبو طريقه صوب قلبِ كلِّ فتاة، إلا أن السلطات كانت تسدُّ الطريق في وجهه خائفًة من وصفتهِ السحرية.

فالكنيسةُ تساءلتْ: “أيُّ كوارثٍ رهيبةٍ يمكن إن تحلَّ بالمسيحية في حال وقع عضو الخطيئةِ الأنثويّ بين يديّ أتباع الشيطان؟”.

المُلّاك الأثرياء لدورِ الدعارة الفخمة في إيطاليا، تساءلوا بدورهم: “ماذا سيحلُّ بمهنة الدعارة المربحة، إن حصلَ كلُّ فقيرٍ أحدب على حبِّ أغلى المحظيات؟”.

أما الجميع فكان يخشى فكرًة واحدًة: “ماذا سيحصل إذا اكتشفت بنات حواء أنهنَّ يملكنَ بين أفخاذهنّ مفاتيح الجنة والنار؟”.

فيما مضى هتفَ البّحار كريستوف كولومبو من فوق سفينته: إنّها اليابسة، قالَها عالِم التشريح مرًة أخرى، وفوق أرض واضحة المعالم، باستثناء ذاك النتوء الصغير، ففي إحدى الليالي صرخ ماتيو كولومبو أيضًا: إنّها اليابسة، وهو يحاول معالجة المرأة الثريّة “إينيس توريمولينوس”، المرأة التي حيّرت الأطباء والكهنة بمرضها، وكان “آمور فينيريس” وراء شفائها.

لم يبقَ من إينيس الآن سوى بعض الأشعار التي تناقلها الناسُ شفهيًّا، من مخطوطها “القدّاس الأسود”، بعد أن أُحرقت إينيس، مع جميع قصائدها، عند اعترافها بتأليف الشعر:

ما الحبّ إلاّ

سقمٌ وأوجاعٌ وحيرةٌ،

ما الحبُّ إلاّ نصلُ سكينٍ ومشنقةٌ حقيرة

لو أني بالحبِّ تغنيتُ

لو أني بالحزن توشحتُ

وغدًا للحبِّ الراحل لوحتُ.




المصدر