لنتعلَّم من الألمان!


منصور حسنو

في ختام رواية الأديب الألماني هاينريش بول (صورة جماعية مع سيدة) الرواية التي تتناول مآسي الحرب وتفكك الإنسان وضياعه، يُصوّر الكاتبُ جنديًّا يحتمي في أحد الملاجئ مع مدنيين عزل، حيث طائرات الحلفاء تدكّ المنطقة دكًا بالقنابل، ويسبح الملجأ بالدماء، وكيف سارع هذا الجندي وقد بدأ الجدار ينهار مع انهيار امرأة بجانبه، وكيف مارسا الحب وهما يشمان رائحة الموت، ولم يكن غرض بول من هذا المشهد سوى أن يجعل قيمةَ الحب غالبةً على هول الموت والحرب.

يظن السوريون أنّ ما حلّ بهم لم يحلّ بأمّةٍ في الأرض، ولو امتلك التاريخ شرائط تصوير وتسجيل ومواقع توثيق وتصوير، لربما تفاجئنا بأن أممًا كثيرة نالت من طغاتها وأعدائها مثل ما نال السوريون وأكثر، وفي التجربة الألمانية خير شاهد على كلامنا، فألمانيا خاضت أكثر من حرب، وتاريخ ألمانيا حافل بالانقسامات وتقلص الحدود وتمددها، انتهاء بالحرب العالمية الثانية، وتقسيم ألمانيا إلى دولتَين: شرقية عاصمتها (برلين)، وغربية عاصمتها المؤقتة (بون)، كما أراد الغربيون تسميتها أملًا في ألّا يدوم التقسيم!

في الحقيقة، يتداول البعض النموذجَ الألماني على أنه يمثل قابلية أي شعب على النهوض بعد الحرب، متناسين أنّ ألمانيا أساسًا تمتلك رصيدًا قديمًا إمبراطوريًا وقوميًا وثقافيًا مكّنها من النهوض، وقد تكون البدايات مع حركة الإصلاح الديني اللوثري، مرورًا بالمرحلة البسماركية والإمبراطورية الثانية مع فيلهيلم الأول، ثم قيام الحرب العالمية الأولى.

قد يبدو من غرائب التاريخ أنّ الأمم التي تخوض الحروب تكون أكثر تعلمًا وتحضرًا وحنكة في السياسة والصناعة والرغبة في الحياة، والأدب الألماني خير شاهد على ذلك، فهو يتمتع بنزعة مثالية لا تجدها في أي أمة أخرى، فهو أدب للحياة والنهضة والقيام وإرادة البقاء وتحديث القيم وسمو الجمال، كما هو الحال مع غوتة وشيلر وبريخت. أما عن الفلسفة، فهل في عالم الثقافة والفكر والعقل عملٌ إلا وخيرات الفلسفة الألمانية مبثوثة فيه، سواء المثالية منها أو المادية؟

الألمان ماهرون في استحضار واستبعاد أي شيء من الماضي، إن كان يخدم قومتهم ونهضتهم أو يعيقها، ففي بيت ومتحف الفيلسوف الاقتصادي فريدريك إنجلز، ثلاثة كتب على طاولته: كتاب (رأس المال)، كتاب (فلسفة النقود)، وكتاب (أخلاق البروتسانتية وروح الرأسمالية)، في إشارة ثقافية إلى مدارس علم الاجتماع الألماني التي يتباهى بها الألمان.

ما أحوجنا -السوريين- أن نتعلم من الألمان ليقيننا أن دوام الحال من المحال، وأن كل من عليها فان، وأن الهتلرية مرحلة من التاريخ وانقضت، وأن الأسدية ستنقضي! فهل سنحدث العقل ونستعيد من التراث ما يعيننا على الوثوب، ونستبعد منه ما يخدر النفوس ويدفع للقعود؟ ونصنع فلسفتنا الخاصة بنا كأمة سورية لها تاريخ إمبراطوري عظيم، ومهما كان مخاض الخلاص أليمًا؛ فإن إرادة الحياة والقيام يجب أن تكون نصب أعيننا، وكما تخلصت ألمانيا من شرقيتها وغربيتها وأصبحت دولة اتحادية بدستور عصري عظيم، يجب أن نتخلص من عقدة موالين ومعارضين وثوريين وغير ثوريين، ساحليين وغربيين، سنيين وعلويين، وكما هدمت إرادة الحب والتسامح ومنطق الحياة وثقل التاريخ جدارَ برلين، فإن جدران الكراهية والتقسيم والحقد بين السوريين يجب أن تزول.

علينا نحن -السوريين- أن نتعلمَ من الألمان قبل فوات الأوان، فثمة لحظات قادمة وحدها الشعوب الذكية هي من تلتقطها وتصنع مفتاح مجدها، وتستعيد وطنيتها التي كفر بها الطغاة.




المصدر