هل تَثبُت التحالفات أمام تغيُّر المصالح


ليس كشفاً ثورياً لو قلنا أن إقامة الدول لتحالفاتٍ فيما بينها يهدف للحفاظ على وجودها ضدَّ عدوٍّ أقوى أو ظروفٍ طارئة لم تحسب حسابها، لكن هذه التحالفات لا تأتي دون تضحيات إذا لا بد من تجاهل الدول للفوارق واختلاف المصالح على أقل تقدير كي تمضي في مشاريعها المشتركة.

وليس من المنطقي هنا أن تتطابق كل الأهداف، ولا من الضروري أن تتوحد كل الرؤى، بل يتم تجاوز بعض الخلافات والتغاضي عن بعضها الآخر ليكون هناك اتفاق، ويمكن في بعض الحالات أن تكون الخلافات في المصالح والأهداف بحدودها الدنيا، عندها تتجلّى مصلحة البلدان التي يتكوّن منها التحالف، أما عندما تكون الخلافات حول الأمور الجوهرية من حيث الأهداف السياسية أو العقدية عندها يغيب الاتفاق وتنقلب الأمور إلى صراع.

دَور المصالح

عادة ما تتحكم المصالح السياسية بتجميع التحالفات، لأن السياسة تسخّر كل مناحي الحياة لخدمة أهدافها، فيعمل الفن لخدمتها، كما الإعلام وحتى الدّين، وهذا أسوأ استغلال له، حيث يؤخذ من الدين ما يخدم الغرض السياسي المطلوب، ويتم التغاضي عن كل باقي المقاصد الشرعية، لحين احتياجها، فمن رغب بالقتال لن يتذكّر من القرآن الكريم إلا الآية القائلة “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ” الأنفال 60.

أما من رغب بوقف الحرب لقناعة منه أو لمصلحة ما، فينسى كل آيات الجهاد وعزة الإسلام والمسلمين ولا يذكر إلا الآية الكريمة القائلة “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ” الأنفال آية 61، وقسْ على ذلك الكثير من الأمثلة في الماضي والحاضر.

وفق هذا المنطق يمكن أن نفسّر واقع علاقة الشيعة بالعلوية من باب المصلحة السياسية والتخطيط للمكاسب لكلا الطرفين، فالاثنان يدّعيان أنهما من شيعة آل البيت، وكل من الطرفين يعلم بوجود الآخر، فما الذي تركهم متباعدين إلى هذه المرحلة؟

في البدايات، كان الشيعة والسنة يعتبرون أن العلويين ليسوا منهم، وذلك من خلال قراءة الطرفين لنموذج حياة العلويين، وطبائع حياتهم وتعبدهم، ومن خلال الحكم على ما يرشّح من عقيدتهم، فهم من الجماعات الدينية الباطنية التي تحافظ على سرية المعتقد، ولا يعرف من عقيدتهم إلا القليل، إذ لا يظهر أي تأثير للعقيدة على حياتهم اليومية.

ولكن الحاجة غير العقائدية والمصلحة السياسية دفعتهم للبحث عن جماعة يستندون إليها ويشدون أزرهم بها سياسياً، فقد قام حافظ الأسد بانقلابٍ على الشرعية في سوريا بتاريخ 16 /10 /1970 كحركة استباقية على مطالبة البعثيين بمحاكمته على تسليم الجولان المحتل لإسرائيل إبان حرب حزيران عام 1967، وكان له ما أراد بمساعدة أخيه النقيب رفعت الذي طوّق البناء الذي عُقد فيه مؤتمر الحزب، واعتقل المؤتمرين وسجن بعضهم مدى الحياة وأطلق سراح بعضهم الآخر فسارع للسفر خارج البلاد ليُلاحَق ويقتل في الخارج، ومنهم من انتحر أو قُتل، حتى لم يبقَ منهم أحد ليطالب بحق الشعب بمعرفة مسرحية تسليم الجولان المحتل، أو يكون شاهداً على ما حصل، ليبقى حافظ الأسد وحده ويفرض فترة انتقالية مدتها ثلاثة أشهر على البلاد، ويعيّن فيها الموالين له لتؤول السلطة إليه بعدها.

بحثاً عن مرجعية

كان من الحوادث التاريخية المشهودة طلبُ حافظ الأسد من صديقه الشيخ أحمد كفتارو “رد الجميل” بعد أن ساعد الأسد كفتارو على الفوز بمنصب “رئيس مجلس الإفتاء الأعلى في سوريا”، ومكّنه من إقصاء منافسيه، فما كان من كفتارو إلا أن رد المعروف عبر تجاوز مشكلة الدستور وفقرة دين رئيس الدولة (الإسلام) كونه المفتي، وتم ذلك بفتوى من كفتارو الذي طلب من الأسد الظهور وإعلان الشهادتين لتنتهي المشكلة.

لكن ومع ذلك بقيت الطائفة العلوية هائمة دون مرجعية دينية ولو ظاهرياً، فلجأ حافظ الأسد في هذه القضية إلى موسى الصدر الإيراني المولد الشيعي المذهب، والحاصل على الجنسية اللبنانية من الرئيس اللبناني الأسبق فؤاد شهاب.
الصدر كان رجلاً مبهماً وطموحاً، وكان يبدو وكأنّه مؤسّسة كبيرة لها أهدافها البعيدة، وكان على علاقة طيبة بشاه إيران حينها.

في تموز 1973 أصدر الإمام موسى الصدر فتوى من إيران تنصُّ على “اعتبار العلوية جزءًا من الشيعة الاثني عشرية” مستنداً إلى مقولة “الفرع إلى الأصل”.

وحقّقت هذه الفتوى مكسباً للطرفين، إذ أنَّ العلويين الهائمين أصبح لديهم مرجعية دينية يلجؤون إليها عند الحاجة السياسية وليس الدينية، كما أن الشيعة حقّقوا امتداداً سكانيًا وجغرافيًا وانتصارًا سياسيًا مجانيًا كانوا يسعون له منذ زمن طويل.

وقد تجلت الحاجة السياسية هذه عندما هب الشعب السوري في ثورة قل مثيلها في التاريخ في آذار/2011 ضد حكم الوريث بشار الأسد، ثورةً ضد الدكتاتورية الظالمة والمحسوبية والطائفية وإقطاعية الجيش، وعندها استنجد بشار بإيران التي لا تحتاج إلى استنجاد لأنّها أعدت العدة منذ زمن لهذه اللحظة، كون كل ما يجري يقع ضمن مخططاتها للمنطقة، فتدخلت بكل قواها العسكرية والتقنية والاستخباراتية وجنّدت معها كل مرتزقة الشيعة في المعمورة لتحقيق مشروعها الفارسي الذي يتضمن العراق وسوريا ولبنان، بذريعة “حماية المراقد الشيعية”، وبمساعدة كبيرة من روسيا لإيران ونظام بشار استطاع الثلاثة تدمير سوريا وتهجير أهلها، وفرض سيطرتهم على مساحات واسعة من الأرض السورية ولكنهم لم يستطيعوا هزيمة الثورة التي أصبحت جزءًا من كيان الإنسان السوري.

وإذا افترضنا أن الوضع في سوريا انتهى على هذا الحال نتيجة الظروف المحلية والدولية، فكيف سيستوعب الشيعة والعلويون بعضهم بعضًا؟ ولا سيما إذا انتهت المصلحة المشتركة بعد أن بسطت إيران نفوذها على سوريا كمؤسسات مدنية وعسكرية، وأصبح النظام صورة خارجية لها ومنفّذًا لأطماعها ولا حول له ولا قوة، والسؤال هنا: هل سيستمر الوفاق بينهما؟ ألن يصبح الصدام بينهما أمراً حتمياً لاختلاف المصالح وتباين الرؤى؟ وإذا حصل هذا الخلاف يوماً ما هل ستستطيع الطائفة العلوية الوقوف بوجه الفرس الإيرانيين وأطماعهم؟ وإذا لم تستطع بمن ستستنجد؟

الحل عند “إسرائيل”

 

لو توقفنا قليلاً عند هذا الافتراض فإنه لو حصل فعلاً فلن يجد العلويين أمامهم سوى دولة الاحتلال الإسرائيلي (الصديق صداقة غير معلنة)، وقد يكون هذا مرسوماً مُسبقاً، بهدف التخلص من هيمنة الإيرانيين على مقدرات البلاد، وعندها ستحقق إسرائيل هدفين: أولهما لجوء نظام العصابة السورية إليها وهذا يعني ارتماءه في أحضانها وتبعيته لها، والثاني تأديب إيران وإيقاع الخسائر الكبيرة بقواتها ومن الممكن أن تكون المعركة حينها أكبر من ذلك.

لقد ضمنت إيران اليوم الحفاظ على مكتسباتها جراء التدخل في سوريا مهما كانت الحلول التي ستُطبق، وذلك من خلال تغلغلها في مفاصل الدولة، وتشكيل المؤسسات الأهلية التابعة لها والجمعيات الخيرية، ومن خلال الميليشيات العسكرية السورية التابعة لها أو وتلك التي جلبتها من العراق وأفغانستان ولبنان والمتواجدة على الأرض السورية.

ولكنَّ إيران بهذا التموضع الجديد أصبحت قريبة من إسرائيل مما يجعلها على تماس مباشر معها، ولا سيما أن إسرائيل كانت تتوجس خيفة من الأسلحة التي كان يملكها نظام بشار الأسد، فهل ستترك إيران تجاورها وهي تملك أسلحة حديثة ومتطورة، دون أن تنغص عليها حياتها وتجعلها تندم؟

في تلك المرحلة ستصل إيران إلى مرحلة دفع ثمن استدراجها من قبل أمريكا وإسرائيل نكون قد وصلنا إلى تنفيذ الحلقة التالية من المسلسل الأمريكي الطويل “مخطط الشرق الأوسط الجديد.”



صدى الشام