تفاهمات أميركية – روسية في غيابنا


جيرون

كلام عام عن لقاء الرئيسَين الأميركي والروسي على هامش قمة العشرين، في ما يخصّ سورية، ولا ندري إن كان هناك شيء أكثر من العام يرتبط بتفاهمات تفصيلية، حول مجموعة من الاتفاقات التي تتناول سورية والمنطقة والعالم، وصولًا إلى أوكرانيا والقرم وبحر قزوين ونفطه، وربما ما هو أكثر من ذلك، حيث إن التعليقات تؤكد على أجواء من الود والتفاهم، وحتى التناغم بين الطرفَين، وقد جاؤوا على ذكر الأزمة السورية والحل السياسي، وحتى مناطق الحظر الجوي ومناطق خفض التصعيد، والاتفاق الأميركي-الروسي بمشاركة أردنية حول المنطقة الجنوبية، مثالًا، أو شاهدًا.

بالعودة قليلًا بضع سنوات، حين استخدم النظام السوري السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية، خارقًا بذلك “الخط الأحمر” الذي أعلنه أوباما، ودقّ طبول الحرب. ثم، فجأة تم التوصل إلى اتفاقية نزع السلاح الكيماوي الموقعة بين أميركا وروسيا، في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، وما رافقها من أسئلة تتجاوز هذا الاتفاق إلى نوع من تفاهمات بينهما؛ أدّت إلى اقتحام روسيا لسورية ودخولها قوةً احتلالية، وكأنها المسؤولة عن الملف السوري، وصولًا إلى أستانا بعد حلب، واتفاق الجنوب الموقع منذ أيام برعايتهما، وتواتر الحديث عن توافقات لإيجاد مناطق للحظر الجوي، وأخرى لتخفيض التصعيد.

قبل أيام، في الخامس من هذا الشهر، أصدر وزير الخارجية الأميركية بيانًا هو الأكثر تفصيلًا حول سورية، وذلك عقب اجتماع في البيت الأبيض حول سورية، في 30 حزيران/ يونيو، وهو يعكس حالة من التوافق بين وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي.

السفير الأميركي السابق في سورية الشهير روبرت فورد يُعلّق على بيان وزير الخارجية بعدد من النقاط المهمّة؛ فيقول إن تيلرسون ذكر (داعش) تسع مرات، مؤكدًا على أن اهتمام الإدارة الأميركية الرئيس يتجه إلى محاربة (داعش) أولًا، وأساسًا.

وجاء ذكر روسيا ثماني مرات مشددًا على المسؤوليات الخاصة التي تضطلع بها موسكو في الداخل السوري، مشيرًا إلى أنه يجدر بروسيا الحيلولة دون استيلاء أيّ من الفصائل السورية، بصورة غير شرعية، على الأراضي المستعادة من (داعش)، أو سيطرة الجماعات الإرهابية الأخرى.. وذكر عددًا من النقاط التي تشكل رؤية الإدارة الجديدة حول سورية كالحظر الجوي، ومناطق تخفيض التصعيد، ونشر مراقبين لوقف إطلاق النار، وتسريع وصول المساعدات الإنسانية، بينما لم يأت البيان بأي ذكر على إعادة إعمار سورية، ومسؤولية الإدارة الأميركية فيها، وقد حاول وزير الخارجية الأميركية إلقاء المسؤولية على روسيا، حين قال: “هناك مسؤولية ملقاة على عاتق روسيا، في شأن ضمان تلبية الاحتياجات الأساسية الخاصة بالشعب السوري”. ويعلّق فورد على ذلك بالقول: “رسالة الوزير تيلرسون غاية في البساطة: ألّا يطلب أحد من الولايات المتحدة المساعدةَ في جهود إعادة الإعمار. وهذه الرسالة لن تلقى استحسانًا لدى لافروف، غير أنها تتسق على نحو وثيق بما أصرّ عليه المرشح الرئاسي ترامب، خلال حملته الانتخابية الرئاسية، بأنه يتعيّن على الولايات المتحدة التوقف عن محاولات إصلاح الدول الأجنبية الأخرى”.

لم يركز تيلرسون في بيانه على مستقبل سورية في المدى البعيد إلا بإيجاز غامض، حيث قال: “ينبغي البدء بالعملية السياسية الرامية إلى تحقيق التسوية المعنية بمستقبل البلاد”. ولم يتطرّق إلى مصير رأس النظام السوري، ولا إلى ضرورة مغادرة الميليشيات الأجنبية الأراضي السورية. ويقول فورد: “لم يأت تيلرسون على ذكر جنيف، وبدلًا من ذلك قال: “إن روسيا -وليس أميركا- هي التي تتحمل المسؤولية الخاصة بالمساعدة في العملية السياسية، كيفما كانت ماهيتها أو ما ستتمخض عنه”. وهذا موضوع خطير يشير إلى أن الولايات المتحدة ستستمر في سياسة التخلي عن ممارسة دورها المأمول، بل منح روسيا ما يشبه التفويض بالملف السوري. ويختم فورد تعليقاته بالقول: “هل أبدو متهكمًا، حين أقول إن ذلك يذكرني بإدارة الرئيس الأسبق أوباما؟”.

تؤكد الوقائع على الأرض أن الانشغالات الرئيسة للإدارة الأميركية، وروسيا، وجلّ دول العالم، تنحصر اليوم أساسًا بـ “محاربة الإرهاب”، ومحاولة “تخفيض العنف”، أو “التصعيد” في المناطق السورية الساخنة التي تُحدد اليوم مرتسماتها كمناطق نفوذ، وما هو أكثر عبر إيجاد مسار جديد اسمه الجنوب، وفصله عن مسار أستانا، أو الشمال بحيث تنقسم الفصائل المعارضة ومعها القوى السياسية بين الشمال والجنوب، وتشتغل ببعضها.

الأكيد أن جميع السوريين، وفي مقدمهم هيئات المعارضة في الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات، هم مع أي إجراء ينهي المقتلة السورية وعملية الدمار المنهّج لما بقي من البنية التحتية، وإيقاف عمليات التهجير القسري، والتغيير الديموغرافي. ومن هنا تكون الاستجابة لحضور أستانا، ومحاولة حصر جدول الأعمال بما يخًصّ هذا العنوان، ورفض الدخول في أي بند آخر له علاقة بالحل السياسي، كالمشروع الروسي الأخير بـ “تشكيل لجنة سياسية بين النظام والمعارضة وبدء التفاوض والمصالحة”، وقبله محاولة طرح مسودة دستور، ضمن مسعى استبدال جنيف بهذا المسار.

لكن التخوفات كثيرة مما يجري على الأرض من موضعة مناطق نفوذ وكيانات شبه مستقلة، تتوزع من الشمال إلى الجنوب، وتشرف على كلّ منها إحدى الدول لتصبح أمرًا واقعًا، واعتماد قوى مصنّعة لتولي الإشراف على المناطق التي تطرد (داعش) منها، كما يحصل في الرقة، أو الاستعدادات الجارية تحضيرًا لدير الزور والمنطقة الشرقية، وآخرها الاتفاق في الجنوب الذي يمكن أن يكرّس نوعًا من الانقسام بينه وبين الشمال. بينما ما زال التنافس قويًا حول بعض المناطق الأخرى ومن يشرف عليها، كإدلب، والبادية السورية، وحتى المنطقة الشرقية.

واضح، عبر كل المعطيات، أن الإدارة الأميركية الحالية لا تضع في اهتمامها، ولا ضمن جدول عملها، على المدى القريب والمتوسط، الحلَّ السياسي وفق قرارات الشرعية الدولية، وأنها مستمرة -كما كان الحال في عهد إدارة أوباما- بتوكيل روسيا بلعب دور رئيس في الملف السوري، وبما يعني أيضًا أن جنيف بجولاته السبع، والقادمة إن استمرّت، فارغُ المضمون، ولا علاقة مباشرة له ببدء المفاوضات وخطوات الحل السياسي، وأن “المسألة السورية” مركونة جانبًا حتى الانتهاء مما يعدّونه محاربة الإرهاب، بينما يقيمون على الأرض مناطق نفوذ؛ يمكن أن تشرخ بلادنا إلى أجزاء مختلفة، متنازعة.

يبقى السؤال المركزي: أين نحن؟ أي السوريون جميعهم، معارضة وحتى نظامًا، وهل يُحسب حساب أي دور لهم في تقرير مصير بلادهم ومستقبلها، أم أنهم مجرد أدوات، وواجهات، وديكورات؟




المصدر